تبدو سياسة إيران الخارجية في بعض الأحيان غير مفهومة. ولذلك فليس وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير وحده، على الأرجح، هو الذي لا يفهم موقفها تجاه مسودة اتفاق فيينا لحل مشكلة تخصيب اليورانيوم الموجود بحوزتها. ولكنه كان هو الذي أعلن صراحة عدم فهمه، وقال على هامش اجتماع مجلس وزراء الخارجية الأوروبي في بروكسل نهاية الشهر الماضي، إنه لا يعرف بالضبط إستراتيجية إيران في التعاطي مع «مشروع فيينا». وبغض النظر عما إذا كان فهم إيران صعبا إلى هذا الحد، كان في تعاطيها مع «مشروع فيينا» ومازال، ما يمكن أن يبعث على الحيرة. فقد أعطى وفدها في لقاءات جنيف وفيينا التي عُقدت الشهر الماضي انطباعا بأنها مستعدة لقبول نقل أكثر قليلا من ثلثي اليورانيوم الموجودة بحوزتها (1180 كيلوغراما من اليورانيوم المنخفض الخصوبة على وجه التحديد) إلى روسيا لزيادة مستوى تخصيبه وتحويله إلى طاقة (قضبان وقود نووي)، ثم إعادته إليها لاستخدامه في المفاعل النووي للبحوث الطبية في طهران. ولم يأت هذا الانطباع من فراغ لسببين رئيسين: أولهما أن الصيغة المتضمنة في ذلك المشروع يجري بحثها وراء حجاب منذ الصيف الماضي، أي قبل التفاوض عليها في لقاءات جنيف وفيينا العلنية. فقد كُشف النقاب، قبيل بدء تلك اللقاءات، عن محادثات سرية أُجريت في روسيا في الصيف وفتحت الطريق أمام مفاوضات في العلن. وقد نسي الكثير، في ظل تلاحق الأحداث، المقابلة الطويلة التي أجرتها مجلة «نيوزويك» مع الرئيس أحمدي نجاد في آخر أغسطس (آب) الماضي، وقال فيها ما لم يصدر مثله عن مسؤول إيراني من قبل، وهو أن طهران تعرض شراء اليورانيوم المخصب من الولاياتالمتحدة، على أن يُستخدم لأغراض طبية علاجية، بدل قيامها بعملية التخصيب. أما السبب الثاني، فهو أن الصيغة المطروحة لحل مشكلة تخصيب اليورانيوم في «مشروع فيينا» تمثل حلا وسطا مؤقتاً معقولا لكل من إيران والغرب. فهذا حل يحرر إيران من الضغوط المتواصلة عليها، بسبب برنامجها النووي، ويفتح أمامها آفاقا واسعة لتحسين علاقاتها الدولية، وربما أيضا للحصول على اعتراف غربي بشكل ما بدورها الإقليمي، من دون أن يلزمها بالتخلي عما تسميه «حقها المقدس في التخصيب». فليس في «مشروع فيينا» ما يفرض عليها إلغاء برنامج التخصيب برمته والتخلص من آلات الطرد المركزي. وإذا أردنا اختزال المشروع في معادلة شديدة التكثيف، فربما يجوز القول إنه ينطوي على قبول الدول الغربية برنامج إيران النووي في مجمله وخطوطه العامة.. في مقابل قبولها تأطير هذا البرنامج ووضع سقف له وإخضاعه لمراقبة تضمن لهذه الدول الاطمئنان إلى عدم تحويله في اتجاه غايات عسكرية، أقله في المدى المتوسط. فكمية اليورانيوم التي ستُنقل إلى روسيا ثم فرنسا، وفقا للمشروع، تمثل نحو 70 في المئة من مخزون إيران. ويعني ذلك حرمانها من العنصر الرئيس في عملية تحويل أي برنامج نووي سلمي إلى عسكري، وضمان سلمية برنامجها لبعض الوقت. وإذا أُضيف إلى ذلك إقدام إيران على الإعلان رسميا في 25 سبتمبر (أيلول) الماضي عن وجود منشأة نووية جديدة في ناتانز -حين أدركت أن أمرها بات مكشوفا- وقبول إخضاعها للتفتيش، بدلا من محاولة الإنكار ونزعة التحدي، فقد بدت مرونة الوفد الإيراني منطقية إلى حد كبير. لكن ما إن عاد هذا الوفد إلى بلاده، حتى بدأ تسريب أنباء في اتجاه آخر. فقد أخذت وسائل إعلام إيرانية في التشكيك في إمكان إقرار «مشروع فيينا»، واستند بعضها إلى مصادر مجهولة، قبل أن يشرع مسؤولون من الصف الثاني في الدعوة إلى إعادة التفاوض عليه، الأمر الذي مهد للمطالبة رسميا في 27 الشهر الماضي بإدخال تعديلات عليه: (نوافق على الإطار العام للمشروع وعلى معظم بنوده، ولكن بعض النقاط تحتاج إلى تعديل أساسي لإعطاء كل طرف حقه). ولكن هذا الموقف، الذي قد يبعث فعلا على الحيرة، يحتمل أحد ثلاثة تفسيرات وربما جميعها في آن معا. التفسير الأول، هو أن يكون الإطار العام للمشروع مقبولا لدى إيران، وفق ما جاء في ردها الذي طلبت فيه تعديلات، ولكنها تريد الحصول على مكسب إضافي. وفي هذه الحال يمكن أن يكون موقفها التكتيكي، هو المطالبة بتعديلات عدة، إما للحصول على بعضها، أو للتخلي عنها في النهاية، مقابل إضافة بند ينص على إعادة ملف برنامجها النووي من مجلس الأمن إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية. والتفسير الثاني هو أن إيران تريد اختبار إمكانات توسيع نطاق الخلاف بين روسيا والدول الغربية في شأن منهج التعاطي مع إيران. فالمرونة التي أبدتها في بادئ الأمر، تدعم المنهج الروسي الذي يقوم على أن المشكلة معقدة، وتحتاج إلى صبر في التعاطي معها، ولكن حلها سلميا ممكن في نهاية المطاف. وهذا منهج تخالفه دول أوروبية، وخصوصا فرنسا، فيما تبدو أميركا أوباما (الإدارة وليس الكونغرس) في منزلة بين المنزلتين. ولذلك ربما تفكر إيران في أن أمامها فرصة لاكتشاف ما إذا كان توسع الخلاف بين هذه الدول ممكنا في الفترة المقبلة. أما التفسير الثالث، فهو قديم تتبناه دوائر شتى، وتتردد أصداؤه في جنبات من عالمنا العربي، وهو أن إيران تنزع إلى كسب الوقت، أو شرائه، عبر مناورات أصبحت تجيدها ومراوغات تبرع فيها. وفيما يبقى هذا التفسير الأخير صالحاً تماماً لفهم خلفية السياسة الإيرانية، ربما يكون التفسيران الأول والثاني أكثر جدوى في فهم هذه السياسة نفسها في الوقت الراهن.