(إن تعاطي المنتمي وحامل الهمِّ سواء وطني أو قومي أو طبقي غير تعاطي من أُعطب بالفردانية التي "وعظت" بها الأفعى البيضاء مارغريت تاتشر. فالمثقف النقدي وحده لا يكفي. وحده المثقف النقدي/المشتبك الذي ينقل حرب غوار الثقافة إلى حرب غوار النضال الوطني والصراع الطبقي). حين تنفتح أو تُفتح أبواب العالم، لا يمكنك إغلاق الباب عليك حلماً بالأمان، ولا حتى بالأمن. هذا مكوِّن أساسي من مكونات حقبة العولمة، رغم أنها تترنّح. بل لأنها تترنح لا بد أن تكون أكثر عدوانية وشراسة. وأين؟ هنا، نعم هنا. فحين تضيق موارد الفرد أو الطبقة يصبح ما تبقى لديها أكثر قيمة معنوية ونفسية كما يقرأ الاقتصاديون المبتذلون المنفعة الهامشية، وأكثر قيمة مادية كما يقرأها الاقتصاديون الاشتراكيون، وفي القراءتين يصبح التمسك بها اشد وأعلى. هذا ما يفسِّر إستشراس الوحش الرأسمالي الغربي اليوم في الوطن العربي حيث الثورات تمور فيه. ولا حاجة لنراجع تصريحات قادة الغرب في العواصم العربية وفي ميادين الثورات وكأنهم يتحدثون عن بلدانهم. إنه حديث يبين كأن العرب في الوطن العربي عابرون معتدون وحسب! ومع أن هذا التقوُّل من جانبي ليس شعراً ولا حماسة، ولكن تصريحات قادة الغرب في أجمل صورها مُهينة والعار لمن لا يُحسّْ. لنقل أن الثورات العربية وجهت للثلاثي (الغرب الرأسمالي والكيان الصهيوني الإشكنازي والتوابع العرب ساسة ومثقفين ورأسمال) ضربة شديدة وغير متوقعة جوهرها احتمال تناقص وربما توقف نزيف الثروات إلى المركز وتراجع معدل الربح وتدنِّي التراكم مما يخلق بالضرورة عدم استقرار في المركز نفسه، وهذا مفتاح الثورة الاشتراكية، على الأقل حتى اللحظة. وبالمقابل، فإن العدو الثلاثي يشن هجومه المضاد على الوطن العربي. هو هجوم مضاد في غاية الشراسة. ما يسعدنا في هذا الهجوم أنه جوهرياً دفاع من المركز عن وضعه الاستعماري الاستغلالي. للمرة الأولى يصبح المركز الإمبريالي في حالة دفاع، وإن كان دفاعه هجوما، فهو على الأقل فقد عنصر المبادئة، أو التقطناه ولو للحظة. وهجوم المركز موجه ضد محورين يشكلان الخطر الحقيقي : · محور المقاومة في لبنان والعراق والأرض المحتلة، وذلك لأن المقاومة أبرزت متغيراً لم يكن من قبل. فلم تعد الأنظمة هي التي تمثل وجه هذا الوطن، بل برزت المقاومة والممانعة كطرف مضاد يكتسب جمهوراً متزايداً كلما ارتفع منسوب الوعي السياسي الطبقي تحديداً. يتعرض هذا المحور لهجمة شرسة من الثلاثي ولا سيما الطرف العربي منه (ساسة ومثقفين) لأنهم استمرؤوا العيش تحت الاستعمار والاحتلال والتبعية فغدت المقاومة والممانعة والانتصار محرجة لهم. يردد هؤلاء مع هيلاري أم مبارك بقي 30 عاماً والقذافي أربعون وصالح أقل قليلاً، والأسد منذ أيام نوح، ولكن لا أحد يذكر آل سعود المنتخبين بشفافية إلكترونية، أما حكم الاستعمار الصهيوني وهو الأطول في التاريخ، فلا ينشغل به هؤلاء. ألا يحتاج هذا لتفكير عميق؟ · الحضور الهائل للثورات العربية على تنوع الاجتهادات الشعبية. وهي اجتهادات لها علاقة وثيقة بأمرين يشكلان جامعا ومشتركاً عربيا وبأمور أخرى تمثل الخصوصيات القُطرية. فالجامع هو o تجريف وعي الدور الكفاحي للقوى السياسية والقطاعات الطبقية والمجتمع عامة. o وتجريف الثروات ارتكازاً على تجويف الوعي والاعتقاد بأن الأمة في موات. أما التنوع بناء على الخصائص القائمة على مستوى تطور كل قطر ومنحى تطور كل قطر وحتى جغرافيا كل قطر، فاتضح في ثورة شعبية في تونس حركتها القوى الشابة وتحديداً المتعلمة والمحرومة من العمل ودعمتها بشكل مباشر القطاعات الطبقية وخاصة العمالية. وجاء اجتهاد نفس القوى في مصر، سواء من الطبقة الوسطى والتي استقطبت الطبقات الشعبية بأوسع مما تصورنا وارتكزت أساساً على النضالات الطبقية للعمال في مصر رغم أن العمال لم يبدأوا الانتفاضة لكنهم شكلوا كعادتهم القاعدة الحديدية للثورات. وجاءت التجربة اليمنية التي استطالت كحالة شد وجذب بين قوى الرفض الشعبي وقوى دعم النظام ولا تزال. أما تجربة البحرين فأتت محاولة شعبية تتجاوز التقسيم الطائفي مما استدعى العدو الثلاثي إلى البحرين نفسها لحسم الأمر بالقمع هناك وصياغة نهاية مأساوية للثورة عبر تطبيق بسماركية تعيد التاريخ إلى الوراء. ثم الحراك الشعبي في ليبيا وسوريا، وهو الحراك الذي جرى اغتياله فوراً بطريقتين من التدخل الخارجي، ولكن لماذا أو كيف؟ بشأن ليبيا، اتضح على الأقل من التقارير والدراسات التي كتبها خبراء ومفكرون مطلعون في المركز (نحن ليست لدينا مصادرهم...لكن لدينا جرأة "الفتوى بغير علم") أن المعارضة الليبية كانت على تواصل مع الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا خاصة منذ عقود. مثلا، خليفة حنتر قائد قوات المعارضة كان يعيش في كاليفورنيا ويعمل مع ال سي. آي إيه. وبدون أن نتحدث عن الدافع النفطي وراء العدوان، يكفي أن نلاحظ أن هذه المعارضة قد مُنحت إقامة بنك مركزي قبل أن تتحول إلى سلطة ذات سيادة، وهذا استثناء لم تسمح به دول المركز إلا في حالتين في تاريخ الصندوق والبنك الدوليين، وهما من نفس الفئة: تقديم البنك الدولي قرضاً لكرواتيا أثناء انفصالها عن يوغسلافيا، وقبل أن تصبح دولة، وتقديم مساعدات للحكم الذاتي قبل أن يصبح دولة، وهذه حالات لم تنص عليها لا ديباجة إقامة ولا صلاحيات البنك الدولي. بل لقد زعم البنك الدولي أن هناك نظاماً بنكياً في الأراضي المحتلة 1967 قبل 1993، وذلك أثناء مقابلة معي عام 1993، حيث أكدت لوفد البنك الدولي أن ما في الأرض المحتلة هي 38 فرع للبنوك التجارية الصهيونية. بمعنى أنه كان لا بد من كذب ما ليتم تركيب التزوير عليه. أضف أن ليبيا كانت تدفع باتجاه الدينار الإفريقي كبديل للدور واليورو، كما كان يفعل العراق البعثي، وهذا كان سبباً أساس في ذبح العراق . وليست هذه المقالة لقراءة الثورة المضادة، ولكنني أود الإشارة إلى مسألة في غاية الخطورة وهي في الحقيقة من أخطر هجمات الثورة المضادة. فالولاياتالمتحدة الآن تتوسط بين طرفي الصراع في اليمن، وقيادات المركز الإمبريالي تأتي وتروح إلى تونس ومصر، ولا أود الحديث عن أقطار أخرى، إنما المهم أن الرسالة المبنية على هذا التحرك والتي مفادها،: أيها الشعب العربي، ما تزال الخيوط بأيدينا نحن الغربيين. ألم يكن من العار أن تجرؤ وزيرة خارجية أوباما على دخول ميدان التحرير؟ وددت من هذه الفقرة الإشارة إلى أن ما كنا ندعو له عربياً بأن يتم الطلاق بين الشعبي والرسمي قد حصل ولو جزئياً، ولكن بقي أن يشعر الشعبي العربي أن الغرب الرأسمالي عدو بالمطلق. وكل عربي لا يعرف هذا عليه أن يحاول، وليعلم أنه تأخر كثيراً. فغياب موقف قطعي من الغرب الرأسمالي هو تفكك في التماسك القومي والطبقي معاً، وهو ما يجعل احتلال وتدمير قطر عربي كالعراق: أمرا عادياً، ويجعل تمزيق ليبيا أمراً بسيطاً واختطاف سوريا أمراً...لدى كثيرين أمنيةً! حالة سوريا مع بدء الحراك الشعبي في سوريا كان كذلك الحراك من الثورة المضادة. وعلينا أن نتذكر أن بدء الحراك المضاد من خارج سوريا جاء بعد أن اتضحت ملامح الثورات في مصر وتونس، وأصبح الأعداء في لحظة التقاط الأنفاس، لقد توقع الكثيرون أن العدو سيعوض ساحة مصر بسوريا، هذا إلى جانب أن هدف ضرب سوريا هو على أجندة العدو باستمرار : " ... في مقابلة للجنرال الأميركي ويسلي كلارك مع راديو الديمقراطية الآن Democracy Now في الولاياتالمتحدة، قال إن جنرالا أميركياً آخر قال له بعد عشرة ايام من تفجيرات 11 أيلول، أن قرار الحرب على العراق قد أُتخذ. اما كلارك فأخذته الدهشة: متسائلا: لماذا؟ وكان الجواب: لا أدري... أعتقد أنهم لا يعرفون ما عليهم أن يفعلوا!. ولاحقاً قال نفس الجنرال بأنهم خططوا شطب سبعة دول في خمس سنوات: العراق، سوريا، لبنان، ليبيا، إيران، السودان، الصومال". ماذا بقي من السبعة؟ في المقالة السابقة كنت أدافع عن سوريا الوطن في وجه العدوان قيد التنفيذ وليس فقط المؤامرة الخارجية، وفي هذا المستوى لم يتغير موقفي قطعياً. وحاولت، إن أسعفتني اللغة أن أفصل بين النظام وبين الوطن، وما زلت أفعل. وأعتقد أن هناك خللا، أو قصداً لدى البعض بحيث يُدغم النظام بالناس والوطن، وهذا شائع في أوساط الفلسطينيين فكثيرا نسمع وما زلنا أقوالا مثل: العرب....الخ دون أن يتم الفصل بين الأنظمة والناس. وطالما الحديث الآن ماذا نريد من سوريا او لسوريا، فإن هذا يُبرز سلسلة أسئلة جوهرية. والتذكير لازم هنا، بأننا نحلل ولا نقرر ولنا موقف مع الوطن بلا مواربة. ما يقرر هو الشعب العربي في سوريا، وليس الإعلام المسموم والمفضوح بجنرالاته من المذيعين/ات. إذا افترضنا أن النظام السوري نظام ممانعة ونظام قومي ونظام لديه توجهات اشتراكية، هنا نقول للنظام: نعم، لماذا كان التوريث؟ هل كان للرئيس حافظ الأسد أن يورث ابنه لو لم تكن هناك بنية مكتملة وجدت في انتخابات حرة تهديداً لمصالحها؟ فكان التوريث حفظاً للتوازن داخل النظام نفسه، وهو الأمر الذي كما أعتقد حال دون إصلاحات في عهد الرئيس بشار الأسد الذي كما يُقال كان متحمساً لإصلاحات ما. وهذا ما حاولت توضيحه في الإشارة إلى النومنكلاتورا والتي ما تزال تلعب دورا من موقعين: فريق منها خارج سوريا وفريق داخل النظام نفسه وله سطوته. وكلاهما يزعم الإصلاح الآن وهو جاهز لإلقاء سوريا في مخطط الشرق الأوسط الجديد. ومن الطريف الإشارة هنا إلى أن هذا إن حصل، فإنه سيعود بسوريا بضعة عقود تبدأ كبداية سقوط مصر إي ما بعد عبد الناصر بحيث تمر سوريا في هذا المعبر الأسود الطويل. هذه هي المصالح الطبقية، وهذا دور من يمسك بالسلطة السياسية في تمكُّنه عبر ذلك من تغيير كل شيء. إذا كانت الأنظمة المتخارجة لصالح وباتجاه الإمبريالية والصديقة للكيان الصهيوني الإشكنازي، بحاجة لثورة حتى تقوم بالإصلاح، فإن الأجدر بالنظام في سوريا بما هو نظام قومي وتقدمي وممانع ومناهض للإمبريالية، كما يعرض نفسه، أن لا يحتاج إلى ثورة ليقوم بالإصلاح بل أن يكون مثلاً يُحتذى بمعنى أن يقطع الخطى نحو : التنمية مغادرة نظام السوق الدمقرطة والحريات القطع مع النظام الرأسمالي العالمي لقد استنتجت في هذه الجدل أن معظم مثقفينا والمواطنين مضمخين بإقليمية فلسطينية جاهلة تماماً، تجهل أن مصلحة الشعب الفلسطيني ليست في رفض القومية، بل في التمسك الأشد بالقومية لأن القومية تعبير عن الوجود الموضوعي والتاريخي للشعب العربي. تحررنا وتحريرنا لن تكون فلسطينية محضة، ولا فلسطينية أساساً. لقد لاحظت أن أغلبية مثقفينا تنعم تماماً ب "ديمقراطية" تحت الاحتلال، ينتظرون قدوم "دولة" يأكلون ويشربون ويُنجبون بلا حسابٍ! أليس هذا هو التطبيع وداء الأنجزة؟ واستنتجت أن صدام حسين لم يكن تأخر في بسماركيته عن الحقبة التي تناسبها، بل كان قد سبق المرحلة بمرحلة. فلو كانت مصر الحالية مثل عراق صدام حسين من حيث البعد القومي لكانت ضمت ليبيا "إلى حضنها" وخاصة في لحظة الثورة والفوضى التي يمور بها الوطن العربي. ولكن، أزعم أن الأقلام نفسها كانت ستهجم على صدام حسين حتى والسعودية تقوم ببسماركية بالمعكوس. وهذا يرغمني على ممارسة "لا تأدُّبي" فاسأل: هل المال وراء هذا؟ أختم بقول السيد المسيح: "لا تعبدوا إلهين: الله والمال". سيدي، ما أخطر أن يُعبد المال من أين أتى! ولكن، أيها التاريخ، لأن هذا عصر راس المال الذي نعرفه، لن نصمت حتى تُذبح سوريا ثم نبكيها كالعراق وفي الحالتين، نخون فلسطين.