للشاعر الإنجليزي الكبير ميلتون قصيدة طويلة شهيرة عنوانها الفردوس المفقود والفردوس المردود! لم أجد أفضل من هذا العنوان لكي أحلل الاتجاه الأساسي للجماعات الإسلامية علي اختلافها, وهو الحلم باستعادة الخلافة التي سقطت عام1928 مع انهيار الإمبراطورية العثمانية, وكأنها علي الرغم من كل مثالبها وسلبياتها هي الفردوس المفقود الذي تحلم الجماعات الإسلامية باستعادته! كيف؟ بالانقلاب علي الدولة المدنية, عربية كانت أو إسلامية, وتأسيس الدولة الدينية علي هدي تأويل خاص للشريعة الإسلامية, ومفهوم بدائي للإسلام يقوم علي عدم الاعتراف بالآخر غير المسلم, بل وضرورة الجهاد ضده لإخضاعه تحقيقا لمبدأ عالمية الإسلام! إلي أي درجة يصدق هذا التحليل؟ في نهاية مقالي الماضي وعنوانه تعددية الجماعات الإسلامية ووحدة الهدف نشر في أكتوبر2010, خلصت إلي أن كل الجماعات الإسلامية تقوم ممارساتها علي ثلاثية أساسية مفرداتها هي رفض المجتمع القائم واتهامه بعدم التطابق في أحكام الشريعة الإسلامية, وضرورة الانقلاب علي الأنظمة السياسية العلمانية والديمقراطية, وتأسيس الدولة الدينية. وقلت هذا فرض نقدمه ونحتاج لإثباته أو نفيه إلي إجراء دراسات حالة لجماعات إسلامية في المشرق والمغرب والخليج, لكي نتأكد من صحة هذا الغرض. والقيام بدراسة حالات هذه الجماعات الإسلامية المتعددة مثل جماعة العدل والإحسان في المغرب, أو الجماعة الإسلامية في الجزائر, أو الإخوان المسلمين في مصر أو في الأردن أو في الكويت, وغيرها من جماعات يحتاج إلي بحوث متعمقة لا ندعي قدرتنا علي القيام بها, فدراسة هذه الحركات مجال بحثي تخصص فيه عدد من الباحثين المعروفين. ولذلك لكي نتحقق من صحة الفرض, قررنا أن نعتمد علي مجموعة بحوث متميزة ضمنها كتاب بالغ الأهمية عنوانه مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين حرره الدكتور معتز الخطيب, وشارك فيه مجموعة من أبرز الباحثين والمفكرين العرب, هم: برهان غليون, ورضوان السيد, وطارق البشري, وراشد الغنوشي, وأنور أبو طه, وسعد الدين العثماني, وعبدالرحمن الحاج, ونصر عارف, وهاني محص, والكتاب من منشورات إسلام أون لاين( الإسلاميون طرق وحركات), نشره مدبولي في2010. في هذا الكتاب دراسات حالة متعمقة لعدد من الموضوعات المهمة, ولكننا نكتفي بالتركيز علي دراسة الدكتور أنور أبو طه عن الإخوان المسلمون والدولة باعتبار أن الإخوان المسلمين هي أكبر الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي, التي انبثقت عنها حركات سياسية متعددة بعضها يتسم بالاعتدال, والبعض الآخر يتسم بالتطرف الشديد, والبعض الثالث انتقل من التطرف إلي ممارسة الإرهاب بشكل علني وصريح, ضد بعض الدول العربية القائمة. بناء علي تحليلنا للأفكار الرئيسية لهذه الدراسة التي تتميز بالاعتماد علي النصوص التي كتبها الشيخ حسن البنا, نستطيع أن نقول يتعين أن الفرض الذي صغناه بصدد التوجهات الأساسية للحركات الإسلامية علي اختلافها وتنوعها هي واحدة بغض النظر عن تنوع الوسائل, وهي رفض المجتمع القائم, والعمل علي الانقلاب علي النظم السياسية القائمة ولو باستخدام العنف, وتأسيس الدولة الدينية التي تطبق الشريعة الإسلامية. ويطرح الدكتور أنور أبو طه سؤالا مهما هو: ما رؤية حسن البنا لنظام الحكم في الإسلام؟ ويقرر أن حسن البنا في تصوره لموقع السلطة من الدين ومن فهمه لطبيعة الإسلام نفسه باعتباره نظاما شاملا يقرر الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا, فهو دين ووطن, أو حكومة وأمة, وهو خلق وقوة, أو رحمة وعدالة, وهو ثقافة وقانون, أو علم وقضاء, وهو مادة وثروة, أو كسب وغني, وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة, كما هو عقيدة صادقة وعبادة. وفي قول آخر لحسن البنا ذكره في المؤتمر الخامس لجماعة الإخوان وهو الإسلام عقيدة وعبادة, ووطن وجنسية, ودين ودولة, وروحانية وعمل, ومصحف وسيف, والقرآن الكريم ينطق بذلك كله ويعتبره من لب الإسلام ومن صميمه, وبذلك يري أن الإسلام يجب أن يهيمن علي كل شئون الحياة, ويخلص إلي نتيجة بالغة الخطورة مفادها أن الأمة إن لم تكن متمثلة لهذا التصور الشامل فهي أمة ناقصة الإسلام. غير أن الدكتور أنور أبوطه يلفت النظر إلي اجتهاد خاص له أهمية بالغة للشيخ حسن البنا, وهذا الاجتهاد يذهب عكس الاتجاه التقليدي والشائع لدي فقهاء وعلماء السنة والجماعة قديما وحديثا, من أن الحكم والسياسة من الأمور الفرعية والفقهية, لأنه أدرج الحكم في مباحث الاعتقاد وأصول الدين. ويركز الباحث علي ما ذهب إليه حسن البنا من أصالة السلطة في الإسلام لأنه كانت له كما يقول نتائج خطيرة علي التفكير الحركي الإسلامي كله, ويعتبر تأسيسا أوليا لقداسة السلطة, فهو قد وضع بذور فكرة الحاكمية التي تبنتها كل تيارات وجماعات السلفية الحركية لاحقا. واستند في بيان خطورة هذا الموقف الفكري إلي اقتباس مهم من كتاب الدكتور عبدالله بلقزيز يقول فيه: إن الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر, خطاب البنا ومن حذا حذوه, لم يكتف بمجرد الدفاع عن علاقة الوصل بين الديني والسياسي في الإسلام, ضد من حاولوا فك الارتباط بينهما, بل ذهب إلي حيث أسبغ طابعا قدسيا علي تلك العلاقة لقطع الطريق علي أي تساؤل حولها, متقاطعا مع الموقف الفقهي الشيعي في مسألة الإمامة وأصوليتها الدينية في الإسلام. وهذا التأصيل النظري المهم يساعدنا في فهم مشروع جماعة الإخوان المسلمين, الذي يتمثل في الانقلاب علي الدولة المدنية الراهنة, لتأسيس الدولة الدينية, في ضوء مذهب ولاية الفقيه علي الطريقة السنية, تقليدا للمذهب الشيعي. وليست هناك أدني مبالغة في هذا الحكم الذي توصلنا إليه بعد أن درسنا مشروع إنشاء حزب سياسي إسلامي, دعت إليه جماعة الإخوان المسلمين في مصر منذ فترة, وورد فيه نص آثار جدلا واسعا, وهو ضرورة إنشاء مجلس أعلي للفقهاء تعرض عليه قرارات رئيس الجمهورية التي يصدرها في غيبة البرلمان, كما تعرض عليه أيضا قرارات المجالس النيابية( مجلس الشوري ومجلس الشعب). والسؤال: أليس هذا النص الذي رجعت عنه من بعد جماعة الإخوان المسلمين كاشفا بشكل بارز عن أن جوهر مشروع الجماعة هو الانقلاب علي الدولة المدنية, وتأسيس دولة دينية تحكم وفق أحكام الشريعة الإسلامية؟ ومن هنا تبدو دعوات بعض الليبراليين إلي أن هناك ضرورة لإدماج جماعة الإخوان المسلمين في النظام السياسي المصري, سواء صدرت عن ليبراليين مصريين أو عرب أو ليبراليين أجانب بالغة الغرابة! ماذا يعني الإدماج هنا, إذا كانت الجماعة يتمثل مشروعها في تأسيس دولة دينية كما نص علي ذلك مشروعهم لتأسيس حزب سياسي إسلامي؟ ألا يتناقض ذلك مع مبادئ الدولة المدنية التي يحكمها دستور ديمقراطي؟ والخلاصة أن ما ذهبنا إليه منذ البداية من أن الحركات الإسلامية في الوطن العربي علي تنوعها واختلاف مشاربها تمثل بالفعل عائقا من عوائق الديمقراطية العربية, مما يعقد مسيرة الإصلاح الديمقراطي بسبب ممانعة الدولة السلطوية في الخلاص من التراث الشمولي الراسخ في بنية النظم السياسية العربية!