للمرة الثانية خلال فترة وجيزة لوح الرئيس أبو مازن بالاستقالة إذا فشلت المفاوضات. المرة الأولى كانت بقوله للصحافيين أثناء عودته من زيارة نيويورك: هذه المرة ستكون الأخيرة التي ستسافرون معي فيها. أما المرة الثانية فقوله أثناء لقائه مؤخراً، مع أعضاء المجلس الوطني في عمان إن "هذا الكرسي ربما أجلس عليه لأسبوع واحد فقط". من الملاحظ أن الرئيس لم يطرح فكرته بالاستقالة أثناء الاجتماع القيادي الفلسطيني في الثاني من الشهر الجاري، ولا في أي اجتماع قيادي فلسطيني آخر، ما يدل على أن المسألة لا تزال حتى الآن فكرة تراوده أو مجرد تكتيك وتلويح وليست قراراً محسوماً، لذا هو يلوح بها حتى الآن بدون وضعها فعلاً على جدول الأعمال. إن مجرد التلويح بالاستقالة أمر خطير جداً، لأنه يأتي في هذا الظرف الدقيق والحساس، ولأن استقالة الرئيس إذا قدمت ستكون في ظل الانقسام السياسي والجغرافي، وبالتالي لن تؤدي إلى انتقال سلس وسريع للسلطة بل تفتح باب الفوضى والفلتان الأمني. إن الرئيس من خلال التلويح بالاستقالة يوظف الفوضى التي يمكن أن تحدث جراءها للضغط من اجل تحسين شروطه التفاوضية، وإلا الفوضى هي البديل. لو لم يكن هناك انقسام لكان رئيس المجلس التشريعي يتولى مهمة الرئاسة لمده ستين يوماً في حالة استقالة الرئيس، لحين تنظيم انتخابات رئاسية جديدة، مثلما حصل بعد الغياب المفاجئ للرئيس ياسر عرفات. في هذه المرحلة، لا يمكن أن يقوم رئيس المجلس التشريعي بهذه المهمة لأنه ينتمي لحركة مدرجة ضمن قائمة "الإرهاب"، ولا تعترف بها إسرائيل وأميركا والكثير من دول العالم، ولأنها انقلبت على الشرعية التي يمثلها الرئيس، ولأن المجلس التشريعي غائب ومغيب منذ سنوات عديدة. طبعاً هنا كمخرج محتمل في حالة استقالة الرئيس رغم كل ما تقدم، يتمثل بإحالة الأمر برمته إلى منظمة التحرير بوصفها المرجعية العليا للنظام السياسي الفلسطيني، بحيث يمكن أن تعين أولا تعين رئيساً مؤقتاً لحين إجراء الانتخابات الرئاسية، التي من المستحيل أن تعقد فيظل الانقسام، ما يجعل الرئيس المعين رئيساً إلى أجل غير مسمى وبدون شرعية يستند إليها، مثله مثل الرئيس والمجلس التشريعي الذين انتهت مدتهما القانونية، وتم تمديد ولايتهما بقرار صادر عن المجلس المركزي للمنظمة. إن الأمر الأخطر في استقالة الرئيس إذا لم يكتف بالتلويح بها، بل إذا حدثت فعلا، فإنها تحدث في ظل غياب بديل معروف ومتفق عليه، ليحل محل الرئيس. عشية غياب ياسر عرفات كان معروفاً للجميع من هو البديل، أما اليوم فحركة فتح لم تبحث ولم تتفق على البديل عن أبي مازن، وهنا كعدة مرشحين محتملين، وأبو مازن لم يقم بإعداد البديل عنه، ما يجعل استقالته نوعاً من القفز إلى المجهول. وإذا حدثت رغم ذلك، فهي يمكن أن تكون مع وقف التنفيذ. أي أن الرئيس سيقدم استقالته، ولن يغادر منصبه ألا عندما يتوفر البديل عبر انتخابات رئاسية أو بقرار من المنظمة، وهذا يشبه إعلان الرئيس عزمه على عدم الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة عندما تعقد. إذا كان الأمر كذلك فلماذا يلوح الرئيس بالاستقالة، وهو يعرف أن مجرد التلويح بها، يلقي ظلالاً كثيفة على موقع الرئاسة تؤدي إلى إضعافه والى المزيد من التعقيدات، والى المساس بالمصداقية الفلسطينية،والى إضعاف الموقف الفلسطيني أكثر وأكثر. إن ما يدفع الرئيس إلى التفكير أو التلويح بالاستقالة، وليس الاستقالة فعلاً، هو أنه يريد أن يوجه رسائل في اتجاها تمختلفة. فهو يريد أن يوجه رسالة للإدارة الأميركية وإسرائيل والعالم والعرب خصوصاً المعتدلين منهم، انه لا يستطيع أن يستمر إذا كان المطلوب منه تنفيذ الشروط والاملاءات الإسرائيلية كافة. فلا يستطيع الرئيس أن يواصل طريقه بدون إعطائه شيئا، بعد أن وصل إلى حائط مسدود، بسبب التعنت والتطرف الإسرائيلي الذي جعل مجرد تجميد الاستيطان لمدة شهرين، بشكل جزئي ومؤقت، قضية كونية بحاجة إلى رسالة امتيازات وضمانات أميركية سخية جداً لإسرائيل، وبحاجة إلى تأكيد التزام إدارة أوباما برسالة الضمانات التي قدمها بوش لشارون بتاريخ 14/4/2004 والتي أعطى فيها لإسرائيل انجازات كبرى مثل التعهد بأخذ الحقائق التي إقامتها إسرائيل منذ احتلال عام 1967 بالحسبان عند ترسيم الحدود، أي حقها بضم غور الأردن والكتل الاستيطانية، ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى داخل إسرائيل. كما يريد أبو مازن أن يستبق أية ضغوطات جدية عليه أميركية وإسرائيلية لقبول المفاوضات في ظل الاستيطان ووسط مؤشرات توضح أكثر وأكثر أن أقصى ما يمكن أن تحققه المفاوضات، لا يتجاوز اتفاق إطار يكون اتفاقاً انتقالياً جديداً طويل الأمد متعدد المراحل، يعطي لإسرائيل كل ما تريده، ولا يعطي للفلسطينيين شيئاً. ويوجه أبو مازن رسالة للفلسطينيين، خاصة لحركة فتح، التي تخشى من فقدان موقع الرئاسة، إذا استقال بدون اتفاق على البديل عنه، لحثها لكي لا تصعب الوضع عليه أكثر مما هو صعب، وان لا يزايدوا أو يناقصوا عليه، ويقبلوا بالطريق الذي اختاره، كما هو بدون زيادة أو نقصان. أبو مازن لا يزال رغم كل شيء مؤمناً بأن لا طريق سوى طريق المفاوضات، مع التأكيد على رفض استمرار المفاوضات في ظل الاستيطان،أي يريد أن يبقي شعرة معاوية مع المفاوضات إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولاً. فأبو مازن لا يريد أن يواجه مصيراً مشابهاً لمصير ياسر عرفات، ولا يريد أن يستسلم، ولا أن يشق طريقاً آخر. إن هذا الموقف يعني سياسة قد تمكن من البقاء انتظاراً لتطورات قد تساعد على الحسم مثل تغيير الحكومة الإسرائيلية الحالية بحكومة أفضل أو أقل سوءاً منها ! إن المشكلة تكمن وتظهر في أن الانتظار ليس سياسة، بل هولا سياسة قاتلة ولا يحل شيئاً وإنما يعقد كل شيء ويجعله أسوأ.