فى عام 1953 ألف صموئيل بيكيت، وهو كاتب أيرلندى الأصل فرنسى الموطن، مسرحية اسمها «فى انتظار جودو Waiting for Godot». ولأن الفكرة التى تعالجها بدت مستغرقة فى رمزيتها واتسمت بالغموض والإبهام، بينما بدت أحداثها محدودة من حيث المكان والزمان وخلت من عقدة أو حبكة درامية، فقد أحدثت المسرحية انقلابا فى عالم المسرح. لذا لم يكن غريبا أن تشكل نقطة انطلاق لتيار جديد أطلق عليه النقاد اسم مسرح «العبث» أو «اللامعقول»، ذاع وانتشر ووصل إلى ذروة ازدهاره فى نهاية الخمسينيات. وحين رحل بيكيت عام 1989 كان الجدل حول «جودو» لايزال محتدما: من هو؟ وهل سيصل؟ ومتى؟ وماذا بوسعه أن يفعل؟.. إلخ. بحثت فى كتابات النقاد عن تعريف لمسرح «العبث» فوجدت أنه يقوم على الحوار، بعيدا عن الزمان والمكان والحبكة الدرامية، لكنه «حوار غامض مبهم مبتور تعوزه الموضوعية والترابط والتجانس. فكل شخوص المسرحية تتحدث إلى بعضها دون أن يتمكن أحد منهم من فهم الآخر أو من توصيل رسالته. وهو حوار يبدو مبتورا على نحو دائم لأن شخوصه لا تستطيع أن تفصح أو تعبر من خلاله بوضوح عما يجيش فى صدورها.. وقد تنطق بعض الشخصيات فى النهاية بكلمة أو بكلمتين عند النهاية لتلخص السخط العام والغضب الشديد». وفى تقديرى أن ما يجرى على الساحة السياسية فى مصر هو جزء من مسرح العبث أو اللامعقول. ولو قدر لصاموئيل بيكيت أن يعايش هذه المرحلة لاكتشف أن ما أبدعه خياله «فى انتظار جودو» يقل كثيرا فى عبثيته إذا قورن بما يجرى الإعداد له «فى انتظار جمال»!. ليس بوسع أحد أن يحدد بالضبط كيف ومتى ظهرت فكرة نزول جمال مبارك إلى ساحة السياسة وماهية الدوافع والأسباب الحقيقية الكامنة وراءها. كل ما نعرفه أن هذه الفكرة، التى تبدو لنا الآن شيطانية وعبثية إلى أقصى الحدود، وجدت تجاوبا فوريا تطابق مع طموح الابن، من ناحية، ومع أحلام الأسرة، من ناحية أخرى. لذا لم يكن غريبا أن يبدأ وضعها موضع التطبيق، ربما على سبيل التجربة فى البداية، بالسماح لجمال بتأسيس «جمعية المستقبل» عام 1998، قبل أن يحدث انتقال متسرع إلى المرحلة التالية بدفعه إلى حلبة العمل السياسى المباشر. وعلى الرغم من أن جميع الإجراءات التى اتخذت بعد ذلك بدت مصطنعة وغير منطقية، لأنها فُصّلت على مقاس «ابن الرئيس»، وبالتالى عمقت الإحساس تدريجيا بوجود «شىء ما» يجرى الإعداد له خلف الكواليس، إلا أن إنكار هذه الحقيقة لم يزد الشعب إلا قناعة بوجود «مشروع لتوريث السلطة» راحت تترسخ وتكبر تدريجيا حتى وصلت إلى درجة اليقين. لقد تابع الشعب المصرى عملية «تصعيد سياسى» لجمال، بدأت بتعيينه أمينا للجنة السياسات بالحزب الحاكم، وتواصلت إلى أن أصبح هو المهيمن الفعلى والوحيد على كامل أجهزة الحزب، بدت له سريعة بشكل غير طبيعى، ومن ثم مذهلة. ورغم خطورة ما كان يجرى، من حيث تأثيراته المحتملة على مستقبل النظام السياسى فى مصر، إلا أنه كان يمكن أن يظل محصورا فى نطاق «الشأن الداخلى» لحزب يرأسه الوالد ويريد أن يعهد للابن بإدارته من الداخل لو لم يقم كهنة النظام بارتكاب جريمة سياسية كبرى. ففى سياق سعيهم المحموم لوضع «مشروعهم» موضع التنفيذ، لم يجد هؤلاء من وسيلة أخرى سوى تصميم تعديلات دستورية تضمن بقاء منصب رئيس الدولة حكرا على من يرشحه الحزب، ومن ثم فتح الطريق أمام ابن رئيس الحزب ليحل محل والده فى الموقع الرئاسى للدولة فى اللحظة المناسبة. ورغم أن هذا الفصل من المسرحية، والذى لعب فيه كهنة النظام دور الأبطال الرئيسيين، بدا عبثيا بما فيه الكفاية، إلا أن الفصول التالية، والتى لعب فيها الرئيس، من ناحية، والابن، من ناحية أخرى، دور الأبطال الرئيسيين، أضفى عليها من الغموض والإثارة ما جعلها تتصدر قائمة «مسرح اللامعقول». ففى فصلها التالى ظهر الرئيس الأب حريصا على نفى مشروع التوريث من الأساس، خصوصا بعد أن بدأ الجدل حول هذا المشروع يتصاعد ويتحول إلى لغط. وكان الرئيس مبارك فى البداية قاطعا إلى حد التصريح مستنكرا: «مصر ليست سوريا»، ثم تكررت تصريحاته النافية للتوريث بصور وأشكال مختلفة كان آخرها تأكيده على أنه سيظل فى موقعه «طالما بقى فيه عرق ينبض»، فيما فُسّر على أنه رفض لنقل السلطة فى حياته إلى ابنه. أما جمال فلم يتردد، من ناحيته، فى المضى قدما على نفس الطريق، وصرح أكثر من مرة بأنه «ليس مرشحا للرئاسة وليس راغبا فى الترشح». ولأن الناس راحت تتساءل: إذا كانت مصر دولة تختلف عن سوريا وقرر الرئيس الأب أن يظل حاكما لها إلى آخر نفس فى حياته فما دلالة ما يقوم به الابن على الصعيد السياسى؟. وجاءت الإجابة التى أريد لها، رسميا، أن تكون حاسمة: «ابن يساعد والده: فيها إيه دى؟». غير أن هذه الإجابة لم تقنع أحدا على الصعيد الشعبى، وبالتالى عجزت الأفهام عن استيعاب دلالة ما يجرى أو فك طلاسمه. تتالت المشاهد وتعاقبت الفصول، وبدا «مشروع التوريث» وكأنه يسير فى نفس الطريق الذى رسمه كهنة النظام انتظارا لأن تتيح حالة «الغموض البناء» المحيطة به طريقة مناسبة لإخراج المشهد الأخير تمهيدا لإسدال الستار، وفجأة طرأ ما لم يكن فى الحسبان بعد أن ظهر البرادعى، من ناحية، وتدهورت الحالية الصحية للرئيس، من ناحية أخرى. وإذا كان ظهور البرادعى قد أحبط الحجة القائلة: إذا لم يكن جمال فمن؟، فإن التدهور المفاجئ لصحة الرئيس دفع بالكهنة للبحث جديا عن طريقة إخراج مختلف للمشهد الأخير، وربما التعجيل بحدوثه قبل أوان الأوان!. ولأنه تعين عليهم مواجهة المشكلتين فى وقت واحد، بسبب تزامنهما معا تقريبا، فقد بدت الخيارات المتاحة محدودة وصعبة فى الوقت نفسه، ومن هنا التخبط الذى يبدو ظاهرا على سطح الساحة السياسية فى مصر ويضفى على «مسرحية التوريث» طابعا عبثيا بامتياز. فبينما قررت بعض أجنحة النظام استعارة أساليب عمل «الجمعية الوطنية للتغيير» أو «الحملة الشعبية لتأييد البرادعى» والنزول إلى الشارع لجمع توقيعات تطالب بجمال مبارك رئيسا، صرح أمين إلاعلام فى الحزب بأن ترشيح شخص آخر من الحزب فى وجود الرئيس مبارك هو «قلة أدب»، وراحت أجنحة أخرى تؤكد أن الرئيس مبارك هو مرشح الحزب فى انتخابات الرئاسة المقبلة بالإجماع. هذه الصورة، التى تعكس فى ظاهرها ارتباكا وتخبطا يرى فيهما البعض دليلا على وجود انقسام داخل الحزب الوطنى حول مشروع التوريث، لا تبدو دقيقة من الناحية الفعلية نظرا لعدم وجود أى خلاف، فى تقديرى، على التوريث، رغم عدم استبعاد وجود خلاف على توقيته الأمثل. فقلق البعض من تدهور الحالة الصحية للرئيس تدفعه للضغط لإعلان جمال مرشحا للرئاسة منذ الآن وفى وجود والده تحسبا لأى مفاجآت، بينما يرى البعض الآخر أن الوقت لايزال مبكرا للإفصاح عن نوايا الحزب فيما يتعلق بالترشيح، ويكررون دوما أن الرئيس هو مرشح الحزب فى الانتخابات المقبلة «ما لم يفصح الرئيس عن عدم رغبته فى الترشح لأسباب يراها هو». وهنا تكمن المشكلة وتعيد اللعبة إلى مربعها الأول. لقد كان الرئيس مبارك، ولايزال فى الواقع، هو الممسك بكل خيوط «مشروع التوريث»، على عكس ما يعتقد البعض. ولأن أحدا لا يعرف على وجه التحديد ما يدور بالضبط فى ذهن الرئيس حول هذا «المشروع»، فليس بمقدور أحد أن يتنبأ بمن سيتمكن فى النهاية من كتابة مشهده الأخير. فلو كان لدى الرئيس أى اعتراض على هذا المشروع، والذى أربك حياة مصر السياسية كلها فى الواقع وألحق بها وبأمنها أفدح الأضرار، لما سمح لجمال بالنزول ابتداء إلى ساحة العمل السياسى، مفضلا الاستعانة به فى مهام تنفيذية أو استشارية خاصة من وراء الكواليس. والأرجح أنه قرر، وهو ما يعد من أكبر الأخطاء التى ارتكبها، أن يتيح للابن «فرصة» ليجرب «حظه». ولأن مصائر الأمم أكبر من أن تخضع لتجارب من هذا النوع، فإذا كان لمثلى أن يقدم نصيحة للرئيس فلن أتردد فى مطالبته على الفور بأن يأمر بسحب جمال من سوق التداول السياسى كليا فى هذه المرحلة، لأن استمرار الأوضاع على هذا النحو سينتهى بكارثة مروعة. وإذا كانت بعض دوائر صنع القرار فى النظام تعتقد حقا أن حملة جمع التوقيعات لصالح جمال ستقنع الشعب المصرى بأن «قبوله للترشح جاء نزولا على رغبة الجماهير»، فهذا أكبر دليل فى حد ذاته على أن هذه الدوائر أصيبت بعطب حقيقى تجعلها خارج نطاق الخدمة!. ولأننا لا نراهن على أى إمكانية لإصلاح النظام من داخله، فمن الطبيعى أن نراهن على الشعب وحده ونثق فى قدرته على إحداث التغيير وعلى إسدال الستار فى النهاية على مسرحية «فى انتظار جمال» العبثية!.