كتبت مرات عدة متسائلاً عن الفرق بين «الصايع» والديكتاتور، وجاوبت في كل مرة بما معناه أن ما يجمع بينهما محصور في خصام الشرعية والمشروعية إلي جانب العنف والقسوة والميل الفطري لإيذاء الناس، غير أن الأول (الصايع) يتميز عن الثاني بأنه غلبان ومحدود القدرة والإمكانيات لهذا تجده يمارس العنف والإجرام بيده وبذات نفسه وليس بواسطة سياسات ومؤسسات وأجهزة قمعية معتبرة، كما معالي الديكتاتور الذي يقبع في قصر الحكم معززاً مكرماً ومرفهاً جداً ومرتاح البال ومتهني خالص بينما المحرقة البشرية التي يديرها تأكل خلق الله المبتلين بقعدة سيادته علي أنفاسهم. ومع ذلك فإن هذا الاختلاف (التافه) يبدو أحياناً وقد تآكل واضمحل تماماً فلا تعود حضرتك قادراً علي التمييز ورؤية أي فرق بين الأستاذ البلطجي الصايع والأستاذ الديكتاتور الأفخم خصوصاً عندما يحاكي ويستعير الأخير مناهج وأساليب الأول ويستعملها في ارتكاب الشرور والآثام فتراه ينزل من علياء ظلمه واغتصابه ليمارس القتل والتعذيب والتعوير بنفسه، بل ربما يسرق رعاياه وينشل ما تبقي في جيوبهم بيديه الكريمتين مباشرة ودون واسطة من أحد، اللهم إلا أولاده والأعضاء النابهين في عائلته وقطعان النشالين المتحلقين والمعششين حولهم. هذا الديكتاتور الصايع في الحقيقة تظلمه كثيراً وتظلم باقي إخوته الحكام المستبدين ظلماً فاحشاً جداً إذا حشرته في زمرتهم ووضعته في سلة واحدة معهم، والظلم هنا ليس مرجعه فقط اختلاف المنظر والسمات الخارجية حيث التناقض واضح وفاضح بين صورة مجللة بالمهابة (المزيفة طبعاً) وصورة أخري بذيئة ومبتذلة، وإنما أساس وأصل الظلم الذي يقع علي الديكتاتور الأنيق عندما تساوي بينه وبين الديكتاتور الآخر رث الهيئة فظ السلوك، هو أن الأخير يبني نظاماً أقرب لعصابات الخطافين الشوارعية ولا إنجاز له في المجتمع ولا نشاط سوي النشل والنهب والتخريب فحسب، وفي المقابل فإن الديكتاتور الفخم يبدي أشد الحرص علي توفير قدر (متفاوت الحجم) من سيماء وملامح الرصانة تطبع شكل مؤسسات وأجهزة حكمه غير الشرعي، وقد لا يخلو عصره الأسود من بعض الإنجازات المتناثرة هنا أو هناك، وهي إنجازات تظل بالطبع جزئية ومحدودة ولا تقوي علي محو أو التخفيف من آثار جرائمه لكنها قد تكون صالحة للتطوير والبناء فوقها بعدما يأتي الخلاص ويذهب هو ونظام في ستين داهية. إن تاريخ الإنسانية القريب والبعيد عرف هذين النوعين من الحكام الطغاة والمستبدين، وفي التاريخ القريب كانت هناك نظما شمولية قاسية وحديدية (كما أنظمة شرق أوروبا المنهارة التي كانت تسمي نفسها شيوعية) تركت خلفها مجتمعات تنعم بتعليم متطور وحدود دنيا معقولة من العدالة في الحصول علي الخدمات العامة والأسباب (المادية) للحياة الإنسانية الكريمة، فضلا عن مصانع ومزارع وثروات وطنية تسمح بالنمو والنهوض والازدهار.. وعلي الجانب الآخر عرف البشر نماذج ديكتاتوريات بشعة وشنيعة (لست محتاجاً لتكرار أن الديكتاتورية عموماً سيئة وشنيعة) عصفت بمجتمعاتها وأشاعت فيها مظاهر البؤس والدمار والخراب المادي والروحي، وسكن مؤسسوها وقادتها صورة الصيع والمجرمين والقتلة ما يجعل وصفهم بالنعوت الموجودة في قاموس السياسة كالمستبد والديكتاتور والطاغية وخلافه، نوعاً من الإسراف في المدح والنفاق.. انظر حولك من فضلك واللهم إني صائم.