هناك حكايات قد تبدو مسلية أو طريفة إذا ما عالجناها بشكل سطحى ولم نحاول قراءة ما وراء المشهد أو ما تحمله سطورها، وحكاية لبنى السودانية وأزمة "بنطلونها" واحدة من هذه الحكايات. لبنى أحمد الحسين زميلة مهنة فهى تعمل صحفية فى إحدى الجرائد السودانية وهى صاحبة رأى تعبر عنه فى عمودها الذى تكتبه تحت عنوان "كلام رجال" وعندما توافق امرأة على أن يوصف كلامها بأنه كلام رجال فهى تستعير بلغة الشرقيين معانى كثيرة أهمها أنها مسئولة عما تقوله.. وما تقوله لبنى فى كتاباتها الصحفية أكثره نقد لاذع موجه لأوضاع مسئولة عنها الحكومة السودانية. "صحفية مشاغبة" هذا هو الوصف الذى يمكن أن نؤسس عليه حكاية لبنى التى تتعرض الآن للمحاكمة بتهمة عقابها الجلد والغرامة. ولبنى - حسب روايتها لوسائل الإعلام - كانت تحضر هى وبعض صديقاتها حفلا فنيا فى إحدى الصالات العامة عندما داهمت الشرطة السودانية الحفل واقتادتها هى و12 من الحاضرات إلى مركز الشرطة وحرروا لهن محضرا ثم صرفوهن، وبعد يومين تم استدعاء 10 من النساء وتلقت كل واحدة منهن 10 جلدات، أما لبنى فقد تمت إحالتها للمحاكمة هى والاثنتين الباقيتين إلى المحاكمة بتهمة ارتداء زى فاضح وهى تهمة تشملها المادة 152 من قانون العقوبات الجنائى السودانى "فى الإقليم الشمالى فقط" وتنص على أن من يأتى فى مكان عام فعلا أو سلوكا فاضحا أو مخلا بالآداب العامة أو يتزيا بزى فاضح أو مخل بالآداب العامة يسبب مضايقة للشعور العام يعاقب بالجلد بما لا يتجاوز 40 جلدة أو بالغرامة أو بالعقوبتين معا. وفى يوم انعقاد الجلسة الأولى للمحاكمة ارتدت لبنى نفس الزى الذى كانت ترتديه عند القبض عليها وهو عبارة عن بنطلون فضفاض ووشاح يغطى معظم ملابسها وذهبت لتقف به أمام القاضى لكن بعد أن حشدت خلفها جيشا من الناشطين والناشطات الحقوقيين متطوعين أو مجندين دعتهم لبنى من خلال آلاف الدعوات التى قامت بطباعتها وإرسالها إليهم، ولم تخذلها النساء فذهبت أكثرهن يرتدين "البنطلونات" فى مشهد تحد لافت للنظر، وأمام هذه الضغوط "النسوية" وضغوط أخرى قادمة من الخارج اضطرت المحكمة لتأجيل الحكم بجلد لبنى حسب قانون النظام العام السودانى إلى الرابع من شهر أغسطس القادم ، لكن الكلام عن القضية لم يتأجل أو تهدأ الثائرات فى المجتمع السودانى أو الدولى بل على العكس تفرع عن الحكاية أكثر من عقدة درامية وصراع جانبى ، منها مثلا دخول إحدى المناصرات ل ( لبنى) على الخط الدرامى وهى زميلة لها فى المهنة تدعى أمل حبانى ،تطوعت فكتبت مقالا فى صحيفة "أجراس الحرية" تناصر فيه زميلتها وتدافع عنها فأثارت به الشرطة فما كان من المسئولين عنها إلا أن تقدموا ببلاغ ضدها هى الأخرى وتم تقديمها للمحاكمة وهى الآن متهمة تنتظر العقوبة. خط درامى ثالث فجرته منظمة الأممالمتحدة التى تعمل لبنى موظفة فى بعثتها الرسمية بالسودان وبموجب هذه الوظيفة، وطبقا لميثاق موقع مع الحكومة السودانية تتمتع لبنى بحصانة خاصة كان من حقها أن تستغلها منذ اللحظة الأولى لتوقيفها والقبض عليها، لكنها لم تبرز هذه الهوية التى تمنحها حصانة فى وجه الشرطة ولم تلجأ إليها أثناء المحاكمة حين خيرها القاضى أن تحتفظ بها أو تتخلى عنها أثناء المحاكمة فاختارت بإرادتها أن تحاكم كمواطنة سودانية مقتنعة أنها لم تخطئ ولم تخالف الأعراف أو قيم المجتمع الذى تنتمى إليه وأن التهمة التى تحاكم عليها تهمة سياسية وليست أخلاقية. وإذا قرأت حكاية لبنى دون أن تأخذك الصراعات الدرامية الفجة لابد سوف يستوقفك موقف الأممالمتحدة الذى وصل إلى الاهتمام المباشر من أمينها العام وقلقه المبالغ فيه عن موظفته وعن المعايير الحقوقية الأممية والحصانة التى يفرض تفعيلها بموجب اتفاقيات دولية، كل هذه الأمور التى تكرس الآن ظاهرة يمكن أن نطلق عليه "الإنسان الأممى" الذى يحمل جنسية بلد ما لكنه يتمتع بحصانات من منظمات دولية و"لبنى" إذا أرادت يمكنها أن تتمتع بهذه الحصانة فهى ليست أبنة السودان فقط، ولكنها ابنة الأممالمتحدة أيضا، وبغض النظر عن معركة التحرر التى تقودها لبنى وصويحباتها - كما يراها البعض - إلا أنها لو قبلت بتدخل الأممالمتحدة فى قضيتها فسوف تفجر قنبلة خطيرة ، تتعلق بسيادة الدول على مواطنيها ، تلك السيادة التى يتم الانتقاص منها الآن لصالح مؤسسات لا أحد يعرف على وجه التأكيد حقيقة ولاءاتها أو أهدافها الموجهة بالأساس للمستضعفين من دول الأرض، وإذا ماخرج كاتب أو مفكر من هذه الدول وقال : ياجماعة انتبهوا لما يحاك فى الظلام هتفت ضده جوقة الجهل النشيط من أبناء جلدته متسائلة: وهل تؤمن بنظرية المؤامرة؟