من كثرة المفاجآت فى بر مصر لم تعد هناك مفاجآت. يصحو الوطن على الحكايات التى تأخذه أبعد من البعيد وتعود به أقرب من القربي. فى أسبوع يوليو تفرغ بعض المصريين للهجوم على ثورة يوليو وعلى مفجرها جمال عبد الناصر. وصلوا فى المدى للقول ان الثورة لم يكن لها مبرر. وأن الإنجليز كانوا سيرحلون عن مصر. وأن الملك كان سيترك الحكم لابنه. فماذا كان مبرر الثورة؟ وعندما اقتربنا من قرار التأميم حلا للبعض أن يتساءل: وهل كان هناك مبرر للتأميم؟ تصوروا أن قرار التأميم كان السبب فى العدوان الثلاثى 1956، مع أن لدى يقينا لا يوجد عندى دليل عليه أن الأطراف التى اعتدت علينا فى 1956 كانت ستعتدى سواء صدر قرار التأميم أو لم يصدر. الجانب الفرنسى كان يصفى حسابات وقوف جمال عبد الناصر مع الثورة الجزائرية ومدها بالسلاح والعتاد والإمكانات. والطرف الإنجليزى كان يريد ألا يرحل عن مصر وأن يعبر عن هذا بضربة قاصمة للثورة الوليدة ولقائدها. أما العدو الإسرائيلى فليس فى حاجة للبحث عن سبب يدفعه للمشاركة فى هذا العدوان. بل أن يكون هو الفاعل الأصلى فى العدوان. فمنذ تمكن الصهاينة من اغتصاب فلسطين فى مايو 1948 وهم يرون فى مصر الخصم العربى الأساسى لهم. وأن وجودهم وتحقيق مشروعهم التوسعى لن يتم إلا بعد إخضاع مصر والقضاء على أى نظام حقيقى فيها. بالنسبة للتأميم الذى يقول البعض ان القناة كانت سترجع لمصر سنة 1968 أى بعد اثنى عشر عاماً من التأميم. ولذلك وبناء على هذه المعلومات غير المؤكدة تساءل البعض ان ما جعلنا نصبر كل هذه السنوات الطوال. والقناة تحت يد الإنجليز. كان بالتالى يمكننا أن نكمل الصبر حتى تتركها لنا إنجلترا برغبتها الكاملة. وأن اثنى عشر عاماً فترة زمنية قليلة فى عمر الشعوب. لا تستحق مجازفة التأميم ولا ما ترتب على التأميم من عدوان على مصر. ومن يرددون هذا الكلام ينسون أو يتناسون أو لديهم رغبة فى النسيان أن فتحى رضوان الوطنى المصرى المعروف وأول وزير للإرشاد القومى بعد قيام الثورة خرج من معتقل الهايكستيب إلى كرسى الوزارة مباشرة. فتحى رضوان ذهب إلى جمال عبد الناصر قبل قرار التأميم بأيام. لم يكن يعرف أى شيء عن القرار. وطلب موعداً عاجلاً مع جمال عبد الناصر. لدرجة أن هذا اللقاء تم يوم جمعة. وهو يوم العطلة المصري. وفى هذا اللقاء قدم فتحى رضوان لجمال عبد الناصر أوراقا ومستندات ودراسات لتطوير مرفق قناة السويس تقوم بها الحكومة الإنجليزية. ومن يطور مرفقاً لا يمكن أن يتركه بعد 12 سنة. لأن التطوير يتكلف الكثير. والتطوير نفسه يعكس الرغبة فى البقاء والاستمرار مهما كان البحث عن المبررات. وهل كانت بريطانيا فى ذلك الوقت - سنة 1956 - ستعجز عن العثور على مبررات لكى تبقى فى القناة إلى الأبد. مشكلتنا أننا نتناول الماضى بوعى الحاضر. ونسقط معرفتنا الراهنة على ما جرى وما تم منذ سنوات بعيدة. حتى لو كانت بريطانيا سترحل سنة 1968عن قناة السويس - وهذا من رابع المستحيلات - فإن التأميم كان له دور ربط الناس بالوطن عبر مشروع وطنى ضخم وعملاق. فى ذكرى مرور 53 سنة على قرار التأميم فوجئنا بحكم المحكمة بتغريم هدى جمال عبد الناصر 150 ألف جنيه لرقية أنور السادات. وكانت الدكتورة هدى جمال عبد الناصر قد قالت منذ خمس سنوات لمجلة الإذاعة والتليفزيون وهى مجلة تصدر عن اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصرى فى حديث كان عنوانه: السادات قتل أبويا. ثم أدلت بحديث آخر لجريدة الخميس الأسبوعية. وفى الحديثين اتهمت الرئيس السادات أنه قتل والدها جمال عبد الناصر. ودللت على هذا بأن السادات كان ملازماً لوالدها فى الفترة الأخيرة من عمره. ورددت ما كانت قد نشرته وسائل الإعلام الغربية - الأمريكية تحديداً - عن أن الرئيس السادات كان يحصل على مبالغ مالية من المخابرات الأمريكية المركزية. ضمن رؤساء دول أخري. ما دفع رقية إحدى بنات الرئيس أنور السادات من زوجته الأولي. إقبال ماضى للجوء إلى القضاء. ورفعت قضية. طالبت فيها الحكم لها بتعويض مالى مقابل هذه الاتهامات. وقتها تردد فى القاهرة أن هناك شخصية سياسية حاولت التدخل فى الأمر والتوفيق بين الابنتين. وذلك بعد صدور حكم أول درجة. وأن ابنة السادات قالت انها ستحصل على الغرامة حتى لو كانت عشرة جنيهات. وستوزع بها "فول نابت" على روح والدها. أكثر الصحف التى دخلت فى الموضوع مهللة شامتة. كانت الصحف الممولة من الولاياتالمتحدةالأمريكية. التى مازالت تتصرف فى الأمر وكأن خصومتها مع عبد الناصر مازالت مستمرة حتى الآن. وأنا عن نفسى عرفت هدى جمال عبد الناصر. والدور الذى قامت وتقوم وستواصل القيام به من أجل حفظ تراث مصر فى الفترة التى تولى والدها حكم البلاد خلالها. جمعت بنفسها من دور الصحف الكبرى ومن دار الكتب والوثائق المصرية ومن دار المحفوظات ومن كل مكان تصورت أن فيه قصاصة ورق أو صورة أو أى شيء عن والدها وخلقت للرجل تاريخاً يقاوم النسيان ويقف فى مواجهة الحملات المستعرة التى تتم كل يوم ضد جمال عبد الناصر وثورته ومشروعه.