فى حين بدأت نيابة الأموال العامة التحقيق مع وزير الإسكان المصرى السابق فى اتهامه بإهدار المال العام والتربح من منصبه، فوجئنا بملف وزير المالية ينفتح وتوجه إليه تهمة استغلال النفوذ ونهب المال العام. وكانت صحيفة «الدستور» هى التى فجرت القضية الثانية، حين نشرت وثائق تثبت أن رئىس الوزراء أصدر عشرة قرارات خلال عام لعلاج وزير المالية المشهود له بالثراء على نفقة الدولة، بمبالغ قدرت بنحو مليون جنيه. الاتهامات التى وجهت إلى وزير الإسكان السابق قديمة، ولا أحد يعرف لماذا فتح ملف ثم أغلق ثم فتح مرة ثانية، أما موضوع وزير المالية فهو جديد نسبيا، لأن مبلغ علمنا أن الرجل يسعى جاهدا لتدبير الموارد التى تحتاجها الحكومة، ولا يمل من ابتكار الأساليب التى تمكنه من التوسع فى الجباية والتفتيش فى جيوب الخلق، وله موقفه المتشدد إزاء حدود التأمين الصحى على عموم المصريين. لكن الوثائق التى نشرت بينت أنه لا يكف عن السفر للعلاج فى الخارج على نفقة الدولة، وأن عشرات الآلاف من الدولارات تصرف له بغير حساب للحفاظ على صحته، خصوصا فى المستشفيات الفرنسية والأمريكية. لا نعرف حتى الآن ما الذى ستسفر عنه التحقيقات مع وزير الإسكان السابق، كما أننا لا نعرف ماذا سيكون مصير الاستجواب المقدم إلى مجلس الشعب بخصوص مصروفات وزير المالية، لكننا نعرف أمرين، الأول أن الرجلين من الوزراء المدللين حيث كانا ولا يزالان من المشمولين بالعطف والرضا من جانب مراجع النظام. الأمر الثانى أن ما نسب إليهما حتى الآن هو مجرد اتهامات، وإلى أن يتم التحقق من صحتها فإن كل واحد منهما يظل بريئًا حتى إشعار آخر. ملاحظتى الأساسية فى شأن الموضوع تتمثل فى أننا فى مثل هذه الحالات نسلط الأضواء على الشخص، وننصرف عن التدقيق فى «البيئة» التى أنتجته. وحين نحاكم الشخص فإننا نغض الطرف عن الذين استثمروه، واستفادوا منه، ووفروا له الحماية والمساندة طول الوقت. فوزير الإسكان مثلا ما كان له أن يتسلح بالجرأة على القانون، ويمارس تلك التجاوزات التى نسبت إليه، إلا إذا كان قد اطمأن إلى أنه أَمَّن ظهره ووفر لنفسه غطاء جيدا من جانب أركان النظام وسدنته. لذلك فإن أصابع الاتهام ينبغى ألا تشير إليه وحده. لأن له شركاء فما فعل استفادوا من تجاوزاته وشجعوه عليها، من ثم فإذا أثبت أن الرجل أهدر الثروة العقارية للبلد، ووزع أراضى مصر على نفر من ذوى النفوذ والمحاسيب وتربح مما فعل، فلا ينبغى أن يحاسب وحده على ما فعل. ولكن الذين استفادوا منه ينبغى أن يحاسبوا أيضا. وخطرت لى فى هذا السياق رغبة أعرف أنها مستحيلة التطبيق، وهى أن يتم حصر أسماء الذين وزعت عليهم أراضى مصر خلال الفترة التى شغل الرحيل فيها منصبه الوزارى، وكيف تحولوا من موظفين كبار إلى مليونيرات فى زمن قصير، بعدما وزعت عليهم الأراضى بسخاء وبأسعار زهيدة وتسهيلات لا تخطر على البال، فباعوا بعضها، بأسعار عالية، وشيدوا قصورًا بما حَصّلوه من أرباح. ولم ينسوا للرجل جميله، فردوه إليه بوسائل متعددة. وهى القائمة التى لن ترى النور فى الوقت الراهن على الأقل، لأن المرشحين لها هم الذين يديرون البلد، ويتقدمون صفوف الذين يهتفون صباح مساء بحب مصر! أما ما نسب إلى وزير المالية فهو يثير قضية أكبر من الرجل، تتعلق بالكيفية التى تنفق بها أموال البلد، إذ لا يعقل أن يكون تبديد تلك الأموال مقصورا على وزير بذاته. وإنما ما كان له أن يتدلل بهذه الصورة وأن يغترف من ماله بذلك النهم. إلا إذا كانت تلك إحدى سمات قبيلة أهل الحظوة، الذين لا يحاسبون على ما يفعلون، ولا على ما ينفقون. إذا أثبتت التحقيقات صحة الادعاءات المنسوبة إلى الرجلين، فذلك سيعنى أن الذين اختطفوا البلد لم يكتفوا باحتكار السلطة فيه، وإنما عمدوا إلى نهبه وافتراسه. بحيث لم يتركوا لأجياله شيئًا لا فى أرضه ولا فى خزانته. تسلموه وطنًا وحولوه إلى حطام وأنقاض.