من حق الأقليات أن تنفصل عن بلدانها وأن تتطلع لحكم ذاتي طالما أن الأنظمة القمعية لاتتيح لها الوصول إلى مطالبها أليس كذلك؟” طرح عليّ هذا السؤال صديق عزيز وزميل في برناج تلفزيوني، وكان من الصعب الرد عليه بطريقة مفصلة وكافية، فالسؤال مبني على قضية كبيرة هي وحدة البلدان العربية وتشظيها، وبالتالي من غير الجائز أن يمر الجواب عليه مروراً خاطفاً لأن الأمر يتعلق ليس فقط بفئات متمردة ومحدودة الحجم، وإنما أيضاً بمصير الفضاء العربي الواسع، ذلك أن كل انفصال أو انشقاق هو سيئ بالتعريف لأنه يزعزع بنيان عالمنا الواحد ولا ينطوي بالضرورة على حلول دائمة للمعنيين وإن توهموا العكس . قبل الدخول من هذا الباب لا بد من الاعتراف بحقين . الأول يشمل العدالة لما يسمى ب “الأقليات” و”الأكثرية” في العالم العربي فهي كلها، وليس بعضها، بحاجة للعدالة في كل المجالات، والثاني وهو الأهم حق البلدان العربية بأن تبقى بلداناً موحدة بانتظار أن ينبثق مشروع عربي للتعاون الجدي أو الاتحاد الطوعي أو الوحدة بالتراضي . والحق الأول لا يتناقض مع الحق الثاني بل يوافقه ويشهد له، ذلك أن العدالة الشاملة لكل العرب والمقيمين على أرض العرب لايمكن أن تكون جزئية أو محصورة بفئة من دون غيرها في الفضاء العربي الواحد . فالعدالة قيمة شاملة وجامعة وبالتالي لا يمكن أن تكون إثنية أو طائفية أو فئوية أو قبلية وهي وإن كانت غائبة بصفتها تلك عن العالم العربي فإن غيابها يطال الجميع وليس جماعة بعينها . وقد بينت التجارب الماضية والراهنة، وبخاصة التجربتان العراقية واللبنانية أن من الصعب الفوز بالعدالة والمساواة ناهيك عن الحرية لفئة من دون غيرها، أو على حساب غيرها، وما دمنا نعيش في فضاء واحد، فإننا نكون جميعاً “أحراراً” ومتساوين ومتمتعين بالعدالة أو لا نكون . بكلام آخر إن كل فئة عربية أو غير عربية تعيش في الفضاء العربي وتظن أنها قادرة على الانعزال بنفسها وبمطالبها في جزيرة خاصة في هذا الفضاء، فإنها ترتكب خطأ مصيرياً وذلك للأسباب التالية: أولاً: لأن المطالب الناجمة عن غياب العدالة والحرية والمساواة لا تتحقق بالانفصال والانعزال والتفتيت . فالظلم يعالج بالعدالة ولو طبقت قاعدة الانفصال والانعزال على كل الذين يعانون من الظلم في هذا العالم لما بقي بلد على حاله ولما بقيت دولة على حالها . ثانياً: لقد بينت تجارب الدول التي وفرت مستوى معقولاً من العدالة لشعوبها أن ذلك تم في إطار فضاء تعددي واحد . فالتجربة الأوروبية ماثلة للعيان لمن يرغب في الاتعاظ والتجربة اللاتينية تنطوي على وعد مشابه، واللافت أن الأوروبيين يحذرون من “البلقنة” و”اللبننننة” و”العرقنة” في معرض الدفاع عن وحدتهم أي من الانفصال أو الانعزال الفئوي والإثني والطائفي، لكنهم بالمقابل يتعاطفون عندنا مع الأحزاب الانفصالية والانعزالية وكأن نعمة الاتحاد أو التضامن تجوز لهم ولا تجوز لنا . ثالثاً: إن الدعوات الانفصالية والانعزالية والطائفية في العالم العربي تتقدم بوجهين واحد “سيئ” وآخر “جيد”، الأول غير عربي أو غير مسلم ومثاله شمال العراق وجنوب السودان والثاني عربي ومسلم، ولكن مجمل هذه الدعوات تتم برعاية خارجية ضمنية أو صريحة . ف “اللبننة” التي يحذر منها الأوروبيون مواطنيهم تمت برعاية عدد من الدول الغربية . و”العرقنة” التي نشهد فصولها بأم العين هذه الأيام تتم برعاية أمريكية واضحة وصريحة، وتواطؤ أو تغاض أوروبي هو أيضاً واضح وصريح في حين تكاد أوروبا وأمريكا أن تطوي صفحة البلقنة عبر دمج صربيا في الاتحاد الأوروبي وإنجاح تجربة كوسفو وتطوير ألبانيا والتلويح بالرخاء لمقدونيا وهكذا دواليك . وهذا يعني أن القوى المسيطرة على هذا العالم ترعى وتشجع التفتيت في فضائنا تحت ستار الدفاع عن حقوق بعض الناس . رابعاً: إن الاندماج العربي الإسلامي المعمر في فضائنا خلال 14 قرناً لم ينهض على ظواهر الانفصال والفئوية والطائفية بل على الوحدة والعدالة وفق مقاييس القرون الغابرة وظروفها، وبالتالي من المعيب أن ينسب بعض المحللين العرب هذه الظواهر لحضارتنا . ولعل الناظر عن كثب إلى تجربة أجدادنا المتواضعة يدرك أنهم قاوموا مشاريع التفتيت في الفضاء العربي ومشاريع الدولة الأمة الجزئية خلال القرن العشرين التي فرضت علينا بعد هزيمتهم ما يعني أن التفتيت الأول الذي عاصروه والتفتيت الثاني الذي نشهد عليه في العراق والسودان اليوم ليس من خصائصنا الحضارية، إنه ثمرة جهود أوروبية وأمريكية تتم بالحديد والنار وبموازنات خرافية . خامساً: لقد استنتجت النخب العربية منذ ضياع فلسطين أن شرط بقاء “إسرائيل” هو تفتيت الفضاء العربي والحؤول دون توحيده، وهذا الاستنتاج صحيح اليوم أكثر من الماضي، ويكفي فقط التذكير باعترافات الموساد “الإسرائيلي” بدعم الانفصاليين في جنوب السودان وشمال العراق وبرعاية أمريكا وأوروبا للطرفين، هذا إذا أردنا طي صفحة “جيش لبنان الجنوبي” وغيره . خلاصة القول أن لا انفصال جيد وآخر سيئ في العالم العربي، وأن حقوق العرب وشركاء العرب في فضائهم الحضاري لا تتم بتفتيت وتطييف وتدمير هذا الفضاء، وإنما بتعميره من أجل الجميع وبواسطة الجميع، وكل حديث آخر لايعول عليه.