إن التربية التي تعني التعامل الأخلاقى مع الآخرين بكافة مستوياتهم، كانت وما زالت هى مقياس تقدم الشعوب والمجتمعات، وقبل أن أتناول الموضوع بالتفصيل أسرد لكم هذا المثل الواقعى الذى يمثل بحق أثر التربية على النشأ منذ الصغر.. ورغم أن كلمة "تربية" كلمة تتكون من سبعة أحرف؛ لكنها تساوى فى معناها ومفهومها مليارات القيم، بل هي نفسها مصنع القيم الذي بالاهتمام به وتجسيده وفقًا لأصول تنفيذيها تكون نتائجها رفع المستوى الأخلاقي لدى المجتمع بكامله وبل وتقوده إلى التقدم والتطور المنشود. الحافلات في الدول المتقدمة، أخلاقيًّا وسلوكيًّا، مثل سويسرا على سبيل المثال- يتم التعامل معها ألكترونيا، حيث يضع بها الراكب النقود بعد تحديد وجهته وتمنحه التذكرة ويستعمل الحافلة بسهولة ويسافر دون وجود مراقب داخل كل رحلة؛ ولا يوجد موظف خاص بالتذاكر داخل الحافلة؛ ولكن هناك بعض الحملات التفتيشية المتفرقة زمنيًّا ومكانيًّا؛ وإذا كان هناك شاذ عن القاعدة، يستطيع التهرب ويستعمل الحافلات يوميًّا بدون أن يدفع شيئًا، فهذا لا يحدث في الغالب إلا من الأجانب المقيمين أو المهاجرين وفي حالات معدودة؛ لأن الرقابة هناك عامة يقوم بها الجميع "الرقابة الشعبية الحقيقية". وأذكر في هذا المقام أن صديقًا لي استقل الحافلة ومعه ابنه الذى أتم الدراسة الإعدادية، واستعمل الأب جهاز التذاكر له ولابنه؛ شارحًا له النظام، إلا أن الابن قال لأبيه: "يابابا كنت توفر ثمن التذاكر لأن مافيش حد ايشوف فينا، كنا ممكن نركب ببلاش". فرد الوالد باللهجة الليبية: "هظا ادماغك المسوس، الناس هنا لا يفكرون هكذا ويلتزمون بالنظام لأنهم تعودوا على ذلك". والحقيقة أن إجابة صديقي على ابنه خاطئة جدًّا؛ لأنه كان يفترض أن يقول له: صحيح أن أحدًا لا يرانا أو يراقبنا من البشر، ولكن الله سبحانه وتعالى يرانا ويراقبنا في كل زمان ومكان، ولا يجب علينا أن نخالف تعاليمه التي علمنا إياها رسولنا ومعلمنا ومربينا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، من عدم السرقة أو الغش أو الاعتداء على الحقوق الآخرين. هكذا كان يفترض أن يكون التوجيه؛ لأن التربية هي في حقيقتها مجموعة من السلوكيات يجب أن يتشرب النشئ أساسياتها داخل الأسرة أولاً، ثم يُنمِّيها المجتمع من خلال المؤسسات التعليمية والثقافية، وبالتالي فإن تسمية وزارات التعليم ب"التعليم والتربية" أو ب"التربية والتعليم" وراءه بُعد نظر؛ لأن التعليم بدون تربية خطر شديد يولِّد الانحراف بتفنن، أي استغلال العلم في إبداعات غير أخلاقية سلوكيًّا، وهذا للأسف ما يحدث في وقتنا الحالي من ممارسات من قبل شبابنا في الشارع والأماكن العامة، وفي استعمالاتهم السيئة لوسائل الاتصال الحديثة، بدءًا من الموبايل إلى النت إلى القنوات الفضائية المختلفة، ولعل أبسطها مذياع السيارة ورفعه بدون احترام للمارة والشارع، أو التلفظ بألفاظ نابية دون مراعات للأُسَر والسيدات وكبار السن. قيل في يوم من الأيام: إن الشعب الليبيي شعب ذا تربية عالية، احذفوا كلمة "التربية" من مسمى وزارة التعليم، فحذف الاسم وذهب معه للأسف المنهج، وكل ما كنا نتحصل عليه من أساليب التربية الدينية والاجتماعية في مدارسنا الابتدائية والإعدادية انتهى، واختفى معه الأسلوب المميز الذي كان يشرح به مدرس الفصل سلوك التعامل مع الجيران والأصدقاء وكبار السن وتحية الصباح والمساء.. وما يقوم به مدرس الدين من شرح وافٍ وتجريبي مباشر لكيفية العبادات وارتباطها بالسلوكيات اليومية، وشرح وافٍ لسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك تعاليم ديننا الموضِّحة بصورة تفصيلية كل أساليب التربية الأخلاقية الراقية في تعاملاتنا في الشارع ومع الجيران وفي الأسواق، وغيرها. هذه الأساليب التى يستعملها الآن برمتها اليابانيون والسويسريون والسويديون، والتي هي سبب وسر تقدمهم وتطورهم. وللأسف اختفت مناهج وأساليب التربية في مدارسنا، وكذلك في مؤسساتنا الإعلامية والثقافية، التى أصبحت بوقًا لخدمة توجهات سياسية وأطروحات فارغة المحتوى، بل وتسخر 99% من وقتها لذلك، لأن الناس تعيش عكسها تمامًا، علاوة على اهتمامها بالتمجيد والتهليل بالمنجزات المادية؛ متناسية أنها مع الأيام سوف تتحول هذه الإنجازات إلى حطام ودمار؛ لأنها تُقدَّم لإنسان لا يعرف أصول التعامل معها أخلاقيًّا وتربويًّا، فانتشر الكذب والنفاق، وأصبحت سمة الاستغلال وانتهاز الفرص- حتى في أبسط الأمور- شيئًا شبه مباحٍ، فلا تتعجب إن طلب منك رجل أمن أو موظف بطاقة شحن موبايل بعشرة دنانير؛ لينهي لك معاملتك، رغم أنه من حقك الحصول عليها وفقًا للقانون والنظام مجانًا، بل إننا نسينا في غمرة ذلك أن نسأل أنفسنا: لماذا انتشر بيننا ذلك؟! وللأسف فإن البعض يعتقد أن السبب في ذلك هو الفساد الإدارى وسوء الإدارة من الدولة؛ لكن هذا القول ركز على النتيجة وتناسى السبب الحقيقي الذي هو الإهمال في التربية وأساليبها ومناهجها منذ أكثر من ربع قرن، سواء في أسرنا أو مدارسنا أو مؤسساتنا الثقافية والإعلامية، بل إننا ابتعدنا عن أساليب التربية الدينية في السلوكيات والعلاقات بين الأفراد في المجتمع، والتي أثبت علم التربية الحديث تأثيرها السحري في المجتمع إذا ما أردنا نشر فضيلة طُويتْ أو قيمة اندثرت. ومن هنا اختفى فعلاً المعلم المربي من حياتنا، ولا أبالغ أن أقول: إن بعض المعلمين أصبحوا يظهرون ممارسات بعيدة كل البعد عن أصول السلوكيات التربوية الصحيحة، أقول ذلك للأسف الشديد وأنا أرى وأتابع تطور تجسيد مناهج التربية السوية في المجتمعات المتقدمة وتطورها من مرحلة التدريس النظري إلى المشاركة الفعلية والتجريبية مثلما يحدث في اليابان وماليزيا مثلاً من مراكز تدريبية مجسمة لكيفية تعامل الطفل في المسجد ومع الآخرين فى الحياة العامة بداية من المحلات التجارية ووسائل النقل والمواصلات، ففي الشارع مراكز في كل حي تُقدِّم التربية بمشاركة ميدانية مباشرة من قبل الأطفال؛ ليتعودوا على هذا المنهج السلوكي البديع، أقول لكم بكل الفخر المصحوب بالأسى: إن ما يبطبقه هؤلاء هو تعاليم القرآن والسنة النبوية الشريفة، وهذا يذكرني بما قاله الإمام محمد عبده، مفتي الديار المصرية في بداية القرن العشرين، عن أهل الغرب بعد أن عاد من زيارة ديارهم: «وجدت هناك إسلامًا بلا مسلمين، وأجد هنا مسلمين بلا إسلام». النتيجة الآن وبعد ربع قرن من من الاعتراف بأننا شعب "متربي" أننا أصبح لدينا جيل، جزء كبير منه، لا يعرف أصول التعامل مع الغير بالشكل الأخلاقى الصحيح، وإن المسئولية تقع كاملة على المجتمع، فعليه أن يعيد حساباته بشأن تدريس مناهج التربية، وتكون البداية بإعادة التربية كمنهج حياة وأسلوب تدريس في مراحل التعليم المختلفة العامة والخاصة، بل إن الحاجة الملحة أصبحت تقتضي دورًا فاعلاً لأئمة المساجد لتوجيه وإعادة تأهيل شبابنا؛ ولإفهامه ما ضاع منه خلال فترة طفولته الماضية، وعلينا أن نضع خطة يساهم في تنفيذها كل مؤسسات المجتمع الثقافية والاجتماعية؛ لنخلق بحق تحولاً اجتماعيًّا أخلاقيًّا لإنقاذ ما يمكن إنقاظه.. فهل من مجيب؟! www.dribrahimguider.com