أصبح اسم البرادعي من أسماء الدبلوماسية الدولية الذي تردد بشدة في أوقات الأزمات الحادة المرتبطة بالانتشار النووي, خاصة منذ صدور قرار مجلس الأمن رقم 1441 في 2002. وكان للبرادعي دور في أزمة العراق انتهى بغزو أمريكا للعراق, ودور في أزمة إيران النووية انتهى بتحدي إيران للوكالة واعلانها أنها لن تتخلى عن حقها في الحصول على الطاقة النووية وأبحاثها للاستخدامات السلمية, كما كان للبرادعي دور في أزمة كوريا الشمالية النووية انتهى أيضاً بفشل جهود الوكالة في اقناع كوريا الشمالية بوقف برامج التسلح النووي, مثلما لم تفلح اجتماعات الدول الست المجاورة لها في التوصل إلى أي حل مقبول على صعيد تسوية هذه الأزمة, وأخيراً قام البرادعي بزيارة إسرائيل في اوائل يوليو 2004. وهذه الأدوار جميعاً لابد أن تدفع إلى البحث في دبلوماسية الوكالة النشطة في عهد البرادعي, ولقائه مع الرئيس بوش وكبار المسئولين الأمريكيين, وإعجاب واشنطن به, واستعداها لأن تمد عقده لعام آخر بعد بلوغه سن المعاش القانونية وتجاوزها بعامين. كما تردد أن هذا الدبلوماسي الذي لمع فجأة يستحق جائزة نوبل للسلام, وهذا ما يدعونا إلى أن نفخر لأنه عربي مصري مسلم من العالم الثالث, وأن نعتبره خط الدفاع المتقدم عن حقوق الضعفاء والمسحوقين. كنت أود أن يكون البرادعي كذلك ولايزال بوسعه أن يؤكد لنا هذا الافتراض لولا أن سؤالاً ملحاً إلحاحاً غريباً حاصرني وهو: لماذا يقوم البرادعي بهذه الأدوار لمصلحة الولاياتالمتحدة ومعركتها مع هذه الدول الثلاث العراق وكوريا وإيران, ولصالح إسرائيل؟ ويبدو أن السبب هو أن واشنطن هى التي رشحت البرادعي وتربى في كنفها بعد أن هزمت واشنطن المرشح المصري لمنصب مدير عام الوكالة د. محمد إبراهيم شاكر سفير مصر في فيينا حينذاك ومندوبها الدائم في مجلس محافظي الوكالة والوكالات المتخصصة الأخرى في فيينا, فأصبح البرادعي مديراً للوكالة على رماح الولاياتالمتحدة لكفاءة وميول تعلمها فيه دفعتها إلى تقديم ترشيحه ضد المرشح المصري, فهو ترشيح أمريكي. ومعلوم أن أمريكا لا ترشح أحداً بسبب فضائل شخصية فيه, أو لأن البرادعي كان يجب ان يكون مرشح مصر لولا المحسوبيات, وإنما هى ترشحه لأنها واثقة أن الرجل أفضل من ينتصر لسياساتها وبشكل أخص ضد مصر والعرب والمسلمين. ولذلك يجب أن يتنبه التاريخ جيداً إلى التمييز بين عباقرة العالم الثالث الذين رفعوا اسم الولاياتالمتحدة, لأنها احتضنتهم وأتاحت لهم فرص النبوغ مثل أحمد زويل وغيره, وبين من قدموا خدمات للولايات المتحدة اعترافاً بفضلها عليهم مثل البرادعي, ولكن ضد مصلحة بلادهم الأصلية وثقافة العالم الذي ينتمون إليه. وقد سبق أن كتبت في الحياه مقالة بتاريخ 3/6/2002 تعليقاً على مقال كتبه البرادعي في الحياه أيضاً قبل ذلك بأيام يهاجم فيه العراق, ويتهمه بحيازته للأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل, وطالبه بضرورة السماح للجنة الأممالمتحدة التي شكلها مجلس الأمن بموجب قراره 1441 للتحقق والتفتيش. ولما كان مقال البرادعي يهدف إلى تقديم شهادة مدير الوكالة ضد العراق وأدانته قبل فحص مخازنه, فكان ذلك موقفاً لا أخلاقياً كان يوجب فصله من الوكالة لو طبقت قواعد الوظيفة الدولية النزيهة, لأنه لا يجوز أن يكون خصماً للعراق وحكما عليها بينها وبين الولاياتالمتحدة بعد أن عين مجلس الأمن فريق التفتيش ليكون هو بعثة تقصي الحقائق المكلفة بتقديم تقرير إلى مجلس الأمن, وهو وحده الحكم في هذا الموضوع. جاء هذا المقال في لحظة حرجة كان الجدل فيها محتدماً حول جدوى التفتيش والبراءة, بينما واشنطن تواصل حشد قواتها في الخليج, وتعلن كل يوم أنها عازمة على غزو العراق. كما جاء المقال في جريدة الحياه أوسع الصحف العربية انتشاراً عند المثقفين العرب في كل مكان في العالم, لكي يصبح بوقاً للسياسة الأمريكية وليخلق انطباعاً لدى القارئ العربي بصحة الموقف الأمريكي, معتمداً على أن كاتبه مصري عربي مسلم ويستخدم هذه المنصة العالية التي ترشحه للسكوت أو أن ينطق خيراً. وجعلت عنوان المقال يومها: تعليقاً على مقال البرادعي متسائلاً: وماذا بعد التحقق والتفتيش؟ وسألت البرادعي هل يعد ماكتبه إدانة مسبقة للعراق, وهو ما كذبته تقارير المفتشين في الأممالمتحدة والمفتشين الخاصين الذين عينتهم الحكومتان الأمريكية والبريطانية بشكل منفصل, هل البرادعي يضمن أن خلو العراق من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل ضمان لإفلات العراق من الاستهداف الأمريكي المخطط والمعلن؟ وهل يستقيل البرادعي حقاً كما هدد إذا تم غزو العراق, ولماذا لم ينفذ وعيده ويستقيل, بل استمر ومدت له مدة خدمته ويأمل في المزيد تيمناً بدول العالم الثالث التي يخلد العباقرة في مناصبهم, ماداموا نافعين للسلطان وليس للمنصب بحجة أن المنصب سوف يفلس إن غادره هذا العبقري الذي تغرب الشمس بغروبه. هذا مدخل أساسي لتقييم موقف البرادعي من قضية الانتشار النووي في الشرق الأوسط. والسؤال الذي يتطلب إجابة موضوعية هو: هل خدمت زيارة البرادعي الوكالة ومصداقيتها أم خدمت إسرائيل؟ ومن فوض البرادعي للقيام بهذه الزيارة, وفي هذا التوقيت بالذات؟ وما معنى التصريحات التي أدلى بها خلال الزيارة؟. يعلم البرادعي جيداً أن واشنطن تعتبر تسلح إسرائيل بكل أنواع الأسلحة ووضعها فوق كل القوانين بعيداً عن المساءلة من أي نوع هو مكافأة للدولة العبرية التي تضم شعب الله المختار, ولا مقارنة بين ما تريد وتملك وبين غيرها, لأن المقارنة بينها وبين جيرانها إهدار لتميز الدولة العبرية عليهم جميعاً. ولا يزال مذهب واشنطن هو أن إسرائيل مهددة من كل جانب, فيجب تجريد جيرانها من كل شئ, وتمكينها من التسيد عليهم بكل أنواع الأسلحة. ويعلم أن إسرائيل عندما طولبت بتنفيذ مبادرة الرئيس مبارك التي أعلنها منذ مايو 1990 أكدت أنها لن تقبل أي معاملة مماثلة لبقية دول المنطقة في مجال الاسلحة إلا بعد أن يستقر السلام, فيزدهر ويتحول السلام إلى أمن في نفوس الشعب الإسرائيلي. ثم جاء شارون وقلب المعادلة بنظريته التي تطالب بالشعور أولاً بالأمن حتى تمد إسرائيل يدها بالسلام, وأن يتحقق هذا الشعور حتى يتم غزو العراق وضمان حرمانه الأبدي من مصادر قوته, والقضاء على أسلحة إيران وباكستان ومنع أي دولة عربية وإسلامية من حيازة أية أسلحة حتى لا تستخدم يوماً ضد إسرائيل. يعلم البرادعي أيضاً أن توقيت زيارته قد جاء قبل أيام من صدور رأي محكمة العدل الدولية في قضية الجدار العازل, وكانت المؤشرات واضحة في أنه سوف يدين إسرائيل التي تتمسك بالجدار بحجة توفير الأمن لسكانها من الإرهاب الفلسطيني, تماماً كما يطالب اللص بحمايته وهو مستمر في تجريد الضحية من ممتلكاته. ويعلم البرادعي أن التوقيت جاء عقب دوره المشبوه في إيران واحتدام الجدل حول الملف النووي الإيراني, وإصرار واشنطن على تجريد إيران من أية قدرات نووية ولو سلمية, وضغوط الوكالة بقيادته على إيران وشهادته السلبية بعد زيارته لطهران وتصاعد الضغط الأمريكي والأوروبي ودخول أوربا بشدة على الخط لنقل الملف إلى مجلس الأمن تمهيداً للمواجهة السياسية وربما العسكرية الدولية لإيران. وقد تسببت الأزمة النووية الإيرانية في طرح السؤال الكبير: وماذا عن إسرائيل؟ فتولدت ضغوط وتفرع السؤال الكبير إلى أسئلة صغيرة كثيرة, وتردد إسم ليبيا, وحاولت الدول العربية أن تقدم ليبيا والعراق مثلين لحرص العالم العربي على أن يبدأ بنفسه في التخلص من أسحلة الدمار الشامل, فيجب أن يهتم العالم أيضاً بما لدى إسرائيل. ولكن واشنطن ردت على ذلك بأن ليبيا لم تعلن عزمها على هجر برامج التسلح غير التقليدي لحبها في السلام وهيامها بالأمن, ولكن لأنها اعتبرت بدروس العراق, فخشيت أن يأتي الدور عليها فسارعت إلى التوبة وطلب المغفرة, وهى لا تجوز لمن يضطر إليها في حسابات البشر. وإذا كانت توبة الانسان إلى خالقه طلباً للمغفرة, فإن صاحب الغفران قد اشترط أن يكون التائب قد ارتكب المعصية عن جهالة وألا يستمر طويلاً في ارتكابها, بل يبادر إلى التوبة أملاً في المغفرة وهى شروط لا تنطبق على ليبيا, لأنها تائب بعد أن رأت العذاب لغيرها, فسارعت إلى التوبة أملاً في دفعه عن نفسها. وهذه هى نظرية الرئيس بوش التي فصلها في أحاديثه إلى الشعب الأمريكي تعليقاً على تقرير اللجنة المستقلة المكلفة بالتحقيق في أحداث 11 سبتمبر, مثلما أصر عليها توني بلير هو الآخر, وهو يعلق على تقرير اللورد بتلر في الاسبوع الأول من يوليو 2004 الذي برأ بلير والحكومة من سوء النية في تقدير أسباب ودوافع غزو العراق. ويعلم البرادعي قطعاً أن أحداً لم يكلفه بالزيارة, ولم يصدر بها قرار من المؤتمر العام للوكالة ولا من مجلس محافظي الوكالة, وإنما قام بها بتعليمات من بوش بعد التنسيق مع شارون, وهدف الزيارة كما تظهر وقائعها ونتائجها هو امتصاص الضغوط المتولدة ضد إسرائيل بعد أن كشف فانونو عن برامجها النووية. وأصر رغم سجنه 18 عاماً على المضي في خطته وتخليه عن يهوديته, وهى الحملة التي واكبت ضغوط الوكالة على إيران بإيعاز من إسرائيل. وخلاصة وقائع الزيارة هى أن إسرائيل ستواصل سياسة الغموض في الاعلان عما إذا كانت تحوز أو لا تحوز أسلحة نووية, وأن لديها مشاكل أمنية خطيرة تجعل تسلحها النووي عملاً مبرراً. وكانت تصريحات البرادعي منسجمة مع طبيعة مهمته ودوره الغريب, حيث أكد أنه لا يستطيع أن يرغم إسرائيل على الإفصاح بما لا تريد الإفصاح عنه, وأنه يقدر بعمق مخاوفها الأمنية. وهذا يعني أنه يوافق على موقف إسرائيل, خاصة وأن إسرائيل محقة في أنها ليست طرفاً في معاهدة الحظر الجزئي على التجارب الذرية, وليست ملزمة بقبول التفتيش الدولي على منشآتها النووية. فإذا كان البرادعي يمثل نفسه, فما هو الأساس القانوني الذي رخص له بهذا الدور المشبوه, وإذا كان يمثل الوكالة فلماذا لا يحاسبه المؤتمر العام للوكالة أو مجلس المحافظين أم أن حسابه سيكون مكافأة على خدمته لإسرائيل, وماذا يقول البرادعي لو أن إيران والدول العربية الأخرى التي انضمت لإتفاقية الخظر الجزئي انسحبت من هذه الاتفاقية حتى يتساوى موقفها مع إسرائيل, ألا يكون ذلك رداً عملياً على فقدان الوكالة لكل مصداقية بسبب أدوار البرادعي؟ ولما لم يطالب أحد بالتحقيق في مواقف البرادعي, خاصة وأنه هو الآخر ساهم في غزو العراق لأنه طمأن واشنطن إلى خلوها تماماً من الأسلحة النووية حتى تستطيع أن تغزو العراق باطمئنان دون أن تتوقع أية مفاجآت نووية. وهل أغلق بذلك ملف إسرائيل النووي بزيارة البرادعي المباركة إليها, وهل يصنف البرادعي على أنه موظف أمين مخلص لعمله, حتى لو ظهر في العالم العربي على أنه من أكثر الشخصيات العربية التي تحالفت مع أعداء المنطقة, أم أنه خان قواعد الأمانة في وظيفته ووظف الوكالة لخدمة السياسة الأمريكية المناهضة للعدل والقانون؟ تلك أسئلة رأيت أن طرحها قد يفيد الدبلوماسية العربية في متابعة ملف إسرائيل النووي بعيداً عن التنسيق مع البرادعي والثقة فيه, مادام يعمل لصالح أمريكا وإسرائيل, كما أن طرح الموضوع برمته هام للمؤرخين, خاصة وأن التاريخ قد ظلم عظماء ورفع غيرهم, لأن العلم بوقائعه قاصر وتفسيره مغلوط. وقد قرأ المصريون تاريخ وطنهم على غير حقيقته وصور لهم الأبطال في تاريخ مصر تائهين وراء سحب من الشك والغموض, بينما وضعت هالات التقديس والإكبار من حول الذين خانوا كفاحها ولوثوا سمعتها واستغلوا علمها واسمها. ملحوظة : هذا المقال وسلسلة من المقالات سبق ان كتبها الدكتور عبد الله الاشعل قبل طرح اسم البرادعى للرئاسة هذا للعلم ارسلها الاشعل لمصر الجديدة