حين تتحدث واشنطن عن «السلام في الشرق الأوسط»، تُصغي الدنيا وكأنها أمام قاضٍ عادلٍ سينطق بالحكم الأخير. لكن الحقيقة أبسط وأقسى: القاضي نفسه هو المتهم. فالولايات المتحدة، التي نصّبت نفسها وسيطًا نزيهًا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لم تكن يومًا سوى طرفٍ يرتدي قناع العدالة بينما يُخفي تحت الطاولة خرائط جديدة لتقسيم الأرض والذاكرة. منذ اللحظة التي باركت فيها واشنطن قيام دولة إسرائيل، لم تكن تفعل ذلك باسم الأخلاق أو الحرية، بل باسم المصلحة. كانت ترى في إسرائيل امتدادًا طبيعيًا لذراعها الطويل في الشرق الأوسط، قاعدةً متقدمة لمراقبة النفط والممرات والمصالح، ودرعًا من الحديد يحمي نفوذها في منطقةٍ لا تعرف الاستقرار. لذلك، لم يكن دعمها لتل أبيب صدفة سياسية، بل تحالفًا مكتوبًا بالحروف الأولى في دفتر الهيمنة. في كل مرة حاولت أمريكا أن تُطلّ بوجه «الوسيط»، كانت تُخفي في يدها ورقة منحازة. تفاوض باسم «السلام»، لكنها تُسلّح طرفًا وتُحاسب الآخر. تُحدث الفلسطينيين عن «الاعتدال»، بينما تبارك المستوطنات، وتغضّ الطرف عن الجرائم التي تُرتكب بدمٍ بارد تحت راية «الأمن الإسرائيلي». كانت تُلقي بخطاباتٍ عن حقوق الإنسان، بينما تزوّد الجيش الإسرائيلي بما يكفي من القنابل ليُسكت أي صوتٍ ينادي بالحرية. إنها اللعبة الأمريكية في أنقى صورها: الحديث عن السلام بينما تُدار ماكينة الحرب في الخلفية. ومع مرور العقود، تحوّلت واشنطن من راعٍ لاتفاقيات السلام إلى شريكٍ في استمرار الصراع. فبعد أوسلو، وبعد كامب ديفيد، وبعد كل مؤتمرٍ حمل شعاراتٍ براقة، كان الفلسطينيون يعودون إلى بيوتهم بأوراقٍ بلا قيمة، فيما كانت المستوطنات تكبر كوحشٍ يبتلع الأرض. حتى خطاب «حل الدولتين» الذي روّجت له الإدارات الأمريكية المتعاقبة، لم يكن سوى مسكّن سياسي يُخدّر الوعي الدولي، بينما يُمنح الاحتلال الوقت ليُكرّس واقعًا لا يُمكن تغييره. في هذا المشهد، لم تعد واشنطن «الوسيط» بقدر ما أصبحت راعيًا لواقعٍ ظالمٍ يخدمها تمامًا. فهي لا تريد حلًا حقيقيًا ينهي الصراع، لأن استمرار النزاع يمنحها نفوذًا لا ينتهي، وسوقًا مفتوحة للسلاح والمساعدات، وأوراق ضغط على الدول العربية، تُستخدم وقت الحاجة. كل هذا باسم «الاستقرار» و«الأمن»، وهما الكلمتان اللتان استخدمتهما أمريكا مرارًا لتبرير تدخلاتها، بينما كانت النتيجة دومًا مزيدًا من الفوضى. لكن اللافت أن الرأي العام العالمي بدأ يفيق. في عصر الصورة ومواقع التواصل، لم تعد واشنطن تملك احتكار السرد. باتت الجرائم تُبث لحظة بلحظة، والازدواجية تُرى بالعين المجردة. ملايين الشباب حول العالم صاروا يدركون أن من يتحدث عن الحرية في كييف، هو نفسه من يصمت أمام القصف في غزة. ومن يرفع شعارات الإنسانية، يمدّ الجسور مع الاحتلال الذي لا يرى في الفلسطيني إلا رقمًا على شاشة. ومع كل مشهدٍ دمويٍّ جديد، تتآكل صورة أمريكا كرمزٍ للعدالة، لتظهر حقيقتها كقوةٍ تمارس السياسة بمكيالين. ومع أن البيت الأبيض يواصل إنكار انحيازه، فإن الوقائع أبلغ من التصريحات. فالمليارات التي تتدفق إلى تل أبيب كل عام، والفيتوهات التي تُجهض كل محاولة لمحاسبتها، كلها شواهد على أن «السلام الأمريكي» لا يعيش إلا فوق أنقاض الحقيقة. لقد آن للعالم أن يدرك أن القضية الفلسطينية ليست صراعًا حدوديًا، بل اختبارًا أخلاقيًا للضمير الإنساني. وأن واشنطن، مهما غلّفت مواقفها بعباراتٍ براقة، تبقى شريكًا مباشرًا في معاناة شعبٍ لم يطلب سوى الحرية والكرامة. فحين يقف الوسيط في صف الجلاد، يصبح الصمت مقاومة، والوعي أول أشكال العدالة. فهل تستمر أمريكا في دورها ك«الوسيط المنحاز»، أم أن التاريخ سيكتب قريبًا صفحة جديدة، تُسقط فيها الأقنعة، وتعود فيها الكلمات إلى معناها الحقيقي؟