عندما تسمع أحدهم يلوك لسانه بعبارات ضد الفساد ومكافحة الإفساد، ولا يخلو حديثه من الشفافية والنزاهة، لابد أن يتسرب إليك القلق والخوف، لأنك قد تكون — دون أن تدري — أمام أحد الفاسدين من العيار الثقيل. للأسف لدينا سجل وتاريخ حافل عن أولئك الذين أعلنوا على الهواء أنهم ضد الفساد، وهم أنفسهم تم ضبطهم في قضايا فساد. إليك مثالاً جامعاً قاطعاً... الدكتور عبيد صالح، الرئيس الأسبق لجامعة دمنهور، كثيراً ما تحدث عن إنجازاته في مكافحة الفساد، ولم يكتفِ بذلك، بل نظم وقاد ماراثوناً رياضياً في الجامعة مرتدياً ومن حوله قمصاناً مكتوباً عليها عبارة "متحدون على مكافحة الفساد"، ليُقبض عليه لاحقاً بتهمة تقاضي رشوة بقيمة 4 ملايين جنيه، واتهامه بإصدار أوامر بالإسناد المباشر لأعمال داخل الجامعة لصالح شركة بعينها، واستبعاد الشركات الأخرى، وتم الحكم عليه لاحقاً بالسجن المشدد 15 عاماً... ما زال يقضيها حالياً خلف القضبان. "فساد صالح ورفاقه" دليل على استمرار وجود الفساد، والقبض عليه ومحاكمته وسجنه دليل على استمرار وجود رقابة ومتابعة وأجهزة لديها إصرار على مكافحة الفساد. سيستمر الفاسدون، وسيستمر المحاربون لهم وله، قد لا يتم الآن اصطياد الفسدة والمفسدين، قد يكون غداً أو بعد غد، لكنه حتماً سيأتي يوم الحساب، على ما كسبته أيديهم، وما اقترفوه من جرائم. وإن تنوعت مظاهر الفساد وأدواته وتعددت أسبابه وأشكاله (الفساد الإداري – الفساد المالي – الواسطة والمحسوبية – الرشوة... إلخ)، سيظل الفساد فساداً، ملعوناً ومذموماً، لأن الفساد يأكل العدل، ويلتهم تكافؤ الفرص، ويهدر الحقوق، ويدمر وحدة وتماسك المجتمع. ساحات القضاء أداة مهمة لمكافحة الفساد، لكن لابد أن تسبقها أدوات كثيرة واستباقية، لابد من زرع الأخلاق وتغذية الوازع الديني، لابد من القضاء على مراكز القوى التي تتكون من البطانة المحيطة بمسؤول هنا ومسؤول هناك، لابد من مراجعة الصلاحيات والسلطات الواسعة الممنوحة لبعض المسؤولين التي تجعلهم يتصورون أنهم فوق القانون واللوائح، وفوق القواعد والمحددات، لابد من دعم الجهاز الرقابي والتفتيشي التابع للدولة كماً وكيفاً، لابد من تغليظ العقوبات، لابد من دعم جهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار. أخيراً نؤكد... ساحات القضاء وحدها لا تكفي لمكافحة الفساد والإفساد... وسيظل الفاسد قابعاً، وسيظل من يحاربه مترصداً.