تجلس النساء في مطبخ جماعي بمدينة الفاشر السودانية المحاصرة في أجواء يخيم عليها اليأس. وتقول إحداهن لبي بي سي: "أطفالنا يموتون أمام أعيننا". وتضيف المرأة: "لا نعرف ماذا نفعل. إنهم أبرياء، ليست لهم أي علاقة بالجيش أو قوات الدعم السريع. معاناتنا أسوأ مما يمكن أن تتصوري". أصبح الطعام في المدينة نادرًا جدًا، كما أن الأسعار ارتفعت بشكل هائل، لدرجة أن المبلغ الذي كان يكفي لشراء وجبات أسبوع كامل، أصبح لا يكفي الآن إلا لشراء وجبة واحدة، بينما تدين منظمات الإغاثة الدولية ما تصفه ب"الاستخدام الممنهج للتجويع كسلاح حرب". وحصلت بي بي سي على لقطات نادرة لأشخاص ما زالوا محاصرين في المدينة، أرسلها لنا ناشط محلي والتقطها مصوّر مستقل. يخوض الجيش السوداني قتالًا ضد قوات الدعم السريع منذ أكثر من عامين، بعد أن تصاعد الخلاف بين قادتهما، الذين نفذوا انقلابًا مشتركًا على الحكومة المدنية قبل ذلك. وتُعد مدينة الفاشر، في إقليم دارفور غربي البلاد، إحدى أكثر جبهات القتال دموية. إضافة إلى ذلك، تفاقمت أزمة الجوع مع تفشي الكوليرا في مخيمات النازحين بسبب القتال، الذي تصاعد هذا الأسبوع ليشهد إحدى أعنف هجمات قوات الدعم السريع على المدينة حتى الآن. وشددت قوات الدعم حصار المدينة المستمر منذ 14 شهرًا، بعد أن فقدت السيطرة على العاصمة الخرطوم في وقت سابق من هذا العام، وكثفت معركتها للسيطرة على الفاشر، آخر معاقل الجيش في إقليم دارفور. وفي شمال ووسط البلاد، حيث استعاد الجيش أراضٍ من قوات الدعم السريع، بدأت المساعدات الغذائية والطبية في تخفيف معاناة المدنيين، لكن الوضع يظل كارثيًا في مناطق النزاع غربي وجنوبي السودان. حول المتطوعون في "مطبخ الخير" الجماعي الإغاثي بالفاشر أواخر الشهر الماضي، بقايا الفول السوداني بعد استخراج زيته، المعروفة محليًا باسم "أمباز"، إلى وجبات يقتات عليها الناس. والأمباز، هي مادة تُستخدم عادة كعلف للحيوانات. في بعض الأحيان يمكن العثور على الذرة الرفيعة أو الدخن، وهو نوع من الحبوب شبيهة بالذرة، لكن في يوم التصوير قال مدير المطبخ: "لا يوجد دقيق ولا خبز". وأضاف: "وصلنا الآن إلى مرحلة أكل الأمباز. نسأل الله أن يفرج عنا هذه الكارثة، لم يعد هناك شيء في السوق يمكن شراؤه". وجددت الأممالمتحدة مناشدتها لوقف إنساني للقتال لإدخال قوافل الغذاء إلى المدينة، وكرر مبعوثها إلى السودان، شيلدون ييت، هذا الأسبوع دعوته للطرفين المتحاربين للالتزام بالقانون الدولي. ومنح الجيش السوداني الإذن لشاحنات المساعدات بالتحرك، لكن الأممالمتحدة لا تزال تنتظر الرد الرسمي من قوات الدعم السريع. وقال مستشارون في قوات الدعم السريع إنهم يعتقدون أن الهدنة ستُستغل لإدخال الطعام والذخيرة إلى "الميليشيات المحاصرة" التابعة للجيش داخل الفاشر. كما زعموا أن قواتهم وحلفاءهم بصدد إنشاء "ممرات آمنة" لتمكين المدنيين من مغادرة المدينة. ويستطيع بعض عمال الإغاثة في الفاشر الحصول على مبالغ نقدية طارئة عبر نظام مصرفي رقمي يعمل في البلاد، لكن قيمتها لا تكفي لسد حاجات الناس. وقالت ماتيلد فو، مديرة حملات المُناصرة في المجلس النرويجي للاجئين إن "الأسعار في الأسواق ارتفعت بشكل هائل"، موضحة أن "اليوم، خمسة آلاف دولار [3680 جنيهًا إسترلينيًا] تكفي لوجبة واحدة فقط ل1500 شخص في يوم واحد. وقبل ثلاثة أشهر، كان المبلغ نفسه يكفيهم لأسبوع كامل". ويقول الأطباء إن الناس يموتون جراء سوء التغذية، وعلى الرغم من عدم وجود إحصائيات واضحة، إلا أن تقريرًا صادرًا عن مسؤول صحي إقليمي يقدّر أن العدد تجاوز 60 شخصًا الأسبوع الماضي. ولا يمكن للمستشفيات استيعاب الأعداد المتزايدة من الحالات، إذ لم يبق منها سوى القليل قيد التشغيل، بعد أن تضررت جراء القصف وأصبحت تعاني نقصًا في الإمدادات الطبية اللازمة لعلاج الجوعى والمصابين بالقصف المستمر. ويقول الدكتور إبراهيم عبد الله خاطر، طبيب الأطفال في مستشفى السعودي، إن هناك "العديد من الأطفال المصابين بسوء التغذية في المستشفى، لكن للأسف لا توجد أي عبوات من الغذاء العلاجي"، مشيرًا إلى أن خمسة أطفال يعانون سوء تغذية حاد في القسم، ولديهم أيضًا مضاعفات طبية. وأضاف: "إنهم ينتظرون موتهم". وفي أزمات الجوع، يكون من يموتون أولًا هم الأكثر ضعفًا، والأقل صحة، أو من يعانون أمراضًا مزمنة. وقال الطبيب في رسالة صوتية إن "الوضع بائس للغاية، كارثي للغاية. أطفال الفاشر يموتون يوميًا بسبب نقص الطعام والدواء. للأسف، المجتمع الدولي يكتفي بالمشاهدة". وأصدرت منظمات إغاثة دولية عاملة في السودان بيانًا عاجلًا هذا الأسبوع، أكدت فيه أن "الهجمات المستمرة، وعرقلة وصول المساعدات، واستهداف البنية التحتية الحيوية، تمثل استراتيجية متعمدة لكسر السكان المدنيين عبر الجوع والخوف والإرهاق". وأضاف البيان أن "التقارير المتداولة عن تخزين الغذاء لاستخدامه عسكريًا تزيد من معاناة المدنيين". وتابع أنه "لا يوجد ممر آمن للخروج من المدينة، فالطرق مغلقة، ومن يحاولون الفرار يتعرضون لهجمات، وفرض ضرائب في نقاط التفتيش، وتمييزًا مجتمعيًا، والموت". وفر مئات الآلاف في الأشهر الأخيرة، كثير منهم من مخيم زمزم للنازحين على أطراف الفاشر، الذي استولت عليه قوات الدعم السريع في أبريل. ويصل الفارون إلى مدينة طويلة، الواقعة على بعد 60 كيلومترًا غرب الفاشر، منهكين ومصابين بالجفاف، ويروون قصصًا عن العنف والابتزاز الذي تعرضوا له على الطريق من مجموعات موالية لقوات الدعم السريع. وقد تكون الحياة بالنسبة للفارين أكثر أمانًا في المخيمات المزدحمة، لكنها مهددة بالأمراض – أخطرها الكوليرا. وينتج المرض عن المياه الملوثة، وأودى بحياة المئات في السودان، نتيجة تدمير البنية التحتية للمياه، ونقص الغذاء والرعاية الطبية، وتفاقم بسبب الفيضانات في موسم الأمطار. وعلى عكس الفاشر، يتمكن عمال الإغاثة في طويلة من الوصول لمن يحتاجهم، لكن إمداداتهم محدودة، بحسب جون جوزيف أوشيبي، منسق المشاريع الميدانية في منظمة "التحالف للعمل الطبي الدولي". ويوضح أوشيبي لبي بي سي: "لدينا نقص في مرافق النظافة الشخصية، ونقص في الإمدادات الطبية للتعامل مع الوضع. نحن نحشد الموارد لمعرفة أفضل طريقة للاستجابة". ويقدّر سيلفان بانيكو من منظمة أطباء بلا حدود أن هناك ثلاثة لترات فقط من المياه للفرد يوميًا في المخيمات، وهو "أقل بكثير من الحد الأدنى للاحتياجات الأساسية، ما يضطر الناس للحصول على المياه من مصادر ملوثة". تستلقي زبيدة إسماعيل إسحاق في خيمة العيادة، وهي في شهرها السابع من الحمل، وتبدو نحيلة ومنهكة. قصتها تشبه قصصًا كثيرة، إذ هربت من الفاشر، واعتُقل زوجها على يد مسلحين تعرضوا لهم وهم في الطريق إلى طويلة، بينما أُصيبت ابنتها في رأسها. وأصيبت زبيدة بالكوليرا بعد وصولها إلى المخيم، وتقول: "نشرب الماء دون غليه. لا يوجد من يجلب لنا الماء. منذ أن جئت إلى هنا لم يبق لدي أي شيء". وفي الفاشر، نسمع مناشدات لطلب المساعدة من النساء المتجمعات في مطبخ الإغاثة. وتقول إحدى النساء، فايزة أبكر محمد: "تعبنا وأُنهكنا. نريد رفع الحصار. حتى لو أسقطوا الطعام جوًا، أو أي شيء – لقد أُنهكنا تمامًا".