اشتدّ القتال في العديد من أحياء العاصمة السودانية الخرطوم، الآلاف يفرون من منازلهم للبحث عن وجهة آمنة يستقرون بها هربًا من الرصاص والقنابل التي تتساقط عليهم من كل مكان، أحياءً كاملة باتت أشبه بمدن أشباح، البعض لجأ نحو وجهة أكثر أمانًا داخل وطنه، وآخرون قرروا الذهاب إلى مصر باعتبارها الأقرب لهم، ليتجمع الآلاف على بوابات معبر أرقين في انتظار المرور، لكنّ البعض لم يكن أمامه فرصة للدخول سوى الطريق غير الشرعي من أجل النجاة ولو كلفهم ذلك كل ما يملكون. مريم حسن فتاة لم تتجاوز السادسة عشر من عمرها، كانت تعيش في مدينة الخرطوم بحري، أحد المناطق التي شهدت اشتباكات عنيفة بين الجيش السوداني والدعم السريع، قبل يوم وصلت مريم وجزء صغير من عائلتها "أمها واثنتان من شقيقاتها" إلى القاهرة بعد رحلة خطرة استمرت نحو 10 أيام. في الخامس عشر من أبريل اندلعت الاشتباكات في العاصمة السودانية الخرطوم بين الجيش السوداني، وما وصفه بميليشيا الدعم السريع، القتال الذي امتد بعد أيام قليلة إلى العديد من المدن السودانية ونتج عنه مئات القتلى والجرحى، ولا يزال قائمًا إلى اليوم، في ظل ظروف إنسانية صعبة يعيشها ما تبقى من أبناء الشعب السودان في بلاده. "حصل ضرب شديد في بحري احنا ومعانا جيرانا جينا هربانين على مصر" كانت مريم تعيش رفقة عائلتها في الخرطوم بحري بالسودان، 7 أشقاء وأب وأم، بعد الحرب بأيام قليلة اشتدّ القتال في الحي الذي تعيش فيه الفتاة، سقطت العديد من القنابل على منطقتهم، مادفع العائلة للهروب وسط دمار منازل جيرانهم وتناثر القتلى والجرحى في كل مكان حولهم. أثناء محاولة هروب مريم وأسرتها مع العشرات من أبناء الحي، افترقت العائلة فرافقت مريم والدتها وشقيقتها الكبرى ياسمين ذات العشرين عامًا والصغرى علوية صاحبة الثلاث سنوات، بينما فقدت آثار والدها وما تبقى من أشقائها السبعة "محمود وبحر وفاطمة وتسنيم"، كانت والدة مريم قد حملت معها مبلغ من المال وبعض متعلقات بناتها أثناء الهرب، الظلام في كل مكان ولم يكن هناك سوى أصوات الرصاص والقنابل فقط، لكن وعلى بعد مسافة كبيرة من الحي سمعت مريم شخص ينادي "تهريب تهريب". وفي السابع والعشرين من أبريل الماضي، أعلنت وزارة الخارجية المصرية أنّ نحو 16 ألف شخص عبروا الحدود من السودان إلى مصر بينهم 14 ألف سوداني، فيما لا يزال هناك المئات ينتظرون العبور على بوابات معبر أرقين. "لما لقينا العربية بتقول تهريب تهريب قررنا نمشي معاه ونروح على مصر" قبل الصعود إلى الأتوبيس طلب المُهرب من مريم وعائلتها نحو 300 ألف جنيه سوداني "500 دولار" على الفرد الواحد، لم يكن هناك خيارات أخرى أمامهم سوى الدفع مقابل الصعود، قضت العائلة الطريق من الخرطوم إلى أسوان في ظل معاناة صعبة، دون طعام كافي يعينهم على صعوبة الطريق سوى مواد بسيطة حملوها معهم قبل استقلال الأتوبيس. بعد نحو 3 أيام وصلت العائلة إلى أسوان حينها توقف المُهرب وطلب منهم أموالا جديدة من أجل توصيلهم إلى القاهرة، دفعت والدة مريم جميع الأموال التي تبقت معها إلى المُهرب في أسوان وبعد نحو 12 ساعة وصلوا إلى القاهرة وتركهم المُهرب في مكان غير معلوم بالنسبة إليهم فهذه المرة الأولى التي تأتي فيها العائلة إلى القاهرة "وصلنا مصر واحنا مش عارفين أي زول هنا". 6 أيام قضتها العائلة في الشارع بلا مأوى، وسط مصير مجهول حتى شاء القدر أن تمر عليهم سيدة سودانية تعيش بالقرب من المكان الذين استقروا في شارعه، فسألتهم عن حالهم وإذا بمريم تروي لها قصتهم، حال العائلة الصعب دفع السيدة للتواصل مع إحدى الجمعيات السودانية المجتمعية وطلب المساعدة منهم، المسؤولة عن الجمعية سارعت في الوصول للعائلة وتوفير مسكن بسيط داخل مقر المؤسسة لهم. آمال رحال رئيس مبادرة آمال المستقبل المجتمعية، والتي استقبلت عائلة مريم بداخلها، المبادرة التي كان هدفها الأساسي منذ بداية الحرب هي استقبال النازحين ممن لا مأوى لهم في القاهرة، خاصة وأنّ كثير من الفارين من حرب السودان ظروفهم سيئة " لا أقرباء ولا أموال " وفقًا لآمال. بالرغم من إمكانيات المؤسسة المحدودة لكنّهم كانوا على قدر كبير من المسؤولية، تم تقسيم أعضائها إلى فرق بعضهم تواجد في أسوان والآخر في القاهرة يبحثون عن الأسر ذات الظروف الصعبة لإيوائهم، وكانت عائلة مريم هي الأولى من بين تلك الأسر، ولم تكتف آمال ورفاقها بهذا الأمر بل أيضًا تذهب يوميا رفقة البعض من أعضاء الجمعية نحو مواقف الأتوبيسات ومحطة قطارات مصر بطعام وشراب في انتظار الوافدين من العائلات السودانية. استقرت مريم وعائلتها منذ ساعات في مقر الجمعية بمنطقة بولاق الدكرور، حالتهم لم تكن أفضل حال الأم أصيبت باضطرابات نفسية والفتيات الثلاث لم يدركو حتى اللحظة ما ألمّ بهم خاصة وأنّهم لا يعرفون مصير والدهم وأشقائهم الأربعة، والذين أيضًا لا يعلمو إلى الآن أنّ مريم رفقة جزء من العائلة يتواجدون في القاهرة" إخواني وأبوي ميعرفوش إننا جينا على مصر". آمال تواصلت بدورها مع الصليب الأحمر كمحاولة لجمع شتات العائلة ومعرفة مصير ما تبقى منهم في الخرطوم عن طريق عنوانهم في بحري أو رقم تليفون الأب الخارج عن الخدمة منذ أيام، لكن الصليب الأحمر أبلغها بصعوبة التواصل حاليا نظرًا للظروف الصعبة التي تعيشها الخرطوم، حاولت السيدة أيضًا مساعدة تلك العائلة فتواصلت مع المفوضية الخاصة بشؤون اللاجئين في مصر لتقنين أوضاعهم، وتوفير مسكن لهم أو مساعدتهم بأي طريقة، لكن المفوضية أبلغتها أنّ هذا الأمر لن يتم إلا بعد 6 أشهر من قدومهم إلى مصر. "الرحلة من الخرطوملأسوان كان شديدة جدا، مش قادرين ننام ولا الأكل كان مكفينا، كنا نتخيل الضرب والأصوات طول الطريق" حتى اليوم مصير مريم وعائلتها غير واضح الملامح، الأسرة تقطن داخل غرفة صغيرة بالمؤسسة الخيرية، لا تعلم هل ستستمر في القاهرة أم تبحث عن طريق للعودة إلى الخرطوم مرة ثانية لكن حلم تلك العائلة الوحيد حاليا هو الاطمئنان على ما تبقى منهم في الخرطوم.