في حلقات خاصة ل"مصراوي"، وعلى مدار الشهر الفضيل، يقدم الدكتور محمود الهواري، عضو المكتب الفنى لوكيل الأزهر، وأحد خطباء الجامع الأزهر، إطلالة رمضانية روحانية تتجدد مع أيام هذا الشَّهر الطَّيِّب، متعرضا لنفحات إيمانية قيمة ونصائح نبوية غالية، ومنها يقول الهواري، عبر فيديو خاص نشره مصراوى عبر صفحته الرسمية على فيسبوك: إن كثيرا من الناس لا ينتبه إلى غايات الصيام العميقة، التي تتجاوز الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة بدءًا من الفجر حتى المغرب. والهدى الأكمل في الصيام هو ما يتجاوز هذا ليصل إلى تحقيق الهدف المعلن في الآيات، يقول الله سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» [البقرة: 183]، ومعنى الآية: لعلكم تتقون الطعام والشراب والشهوة، ويحتمل كذلك أن يكون المعنى: لعلكم تتقون الله بالكف عن المحرَّمات، وترك المعاصي والمخالفات. وتحقيق التقوى لا يكون بالامتناع عن الأطعمة والأشربة مدة من الزمن، وإنما يكون بالبعد عن المعاصي مدة العمر، وكأن شهر رمضان دورة تدريبية لينهض الإنسان من كبوته، وليقوم من عثرته، ويستقيم أمره. ولهذا جعل العلماء الصيام درجات، ولم يجعلوه درجة واحدة، فأوَّل درجاته هي ما يعرفه عموم النَّاس، وهو الامتناع عن شهوتي البطن والفرج من الفجر إلى المغرب، فإذا انقضى النهار فقد حل له ما حرم عليه من طعام وشراب، وهذا الصوم يسميه أبو حامد الغزالي صوم العموم، الذي يشترك فيه جميع الناس. وأعلى من هذا الصوم رتبة صوم آخر يقال له صوم الخصوص -وهو صوم الصالحين- وهو أن يضم إلى الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة الامتناع عن المعصية، فلا تنطلق جارحة منه إلى مخالفة، ويحصل ذلك بأمور: الأول: غض البصر، وكفُّه عن التوسع في النظر إلى ما لا يحل، وقد أمر الله –تعالى- المؤمنين بغض البصر، فقال: ﴿قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم﴾ [النور:30]، وقال النَّبيُّ ﷺ: «لا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ»[الترمذي]. الثاني: حفظ اللسان عن الباطل من كذب وغيبة ونميمة وزور وسب ومراء، وإعماله في ذكر الله وقراءة القرآن، أو إلزامه بالسكوت، فهذا صوم اللسان، يقول رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» [متفق عليه] ، ولا يعني هذا أن يترك الإنسان صومه، بل يهذب صومه ليكون كاملا. وأُمر الصائم بألا يقدم سبا بسب، ولا شتما بشتم، وإنما ليحافظ على صومه من أن يمسه دنس، يقول رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِم...»[متفق عليه]. الثالث: كفُّ الأذن عن الاستماع إلى ما حرَّم الله من لغو باطل، وكلُّ ما حَرُمَ قوله حَرُم الإصغاء إليه؛ ولذلك قرن الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت، فقال تعالى: ﴿سماعون للكذب أكالون للسحت﴾[المائدة:42]، فلا يليق بصائم أن يغتاب متكلما ولا مستمعا، ولا أن ينم متكلما أو مستمعا، وقد روي: «المغتاب والمستمع شريكان في الإثم». الرابع: كفُّ بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكفُّ البطن عن الشبهات وقت الإفطار. فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال، ثم الإفطار على الحرام. فهذا يشبه من يبني قصرًا، ويهدم مِصْرًا. الخامس: ألا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار، بحيث يمتلئ جوفه، فيقعد عن الطاعات، وتثقل عليه القربات، يقول رسول الله: «ما ملأ ابنُ آدم وعاءً شرًّا من بطنٍ». وصوم الجوارح عن المعاصي هو ما يشير إليه جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما- فيقول: إذا صمتَ فليصُمْ سمعُكَ وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء. وقد نرتقي درجة أعلى من هذه لنصل إلى صوم القلب عما سوى الله، فلا يتفكر إلا في ثوابه، ولا يتعلق إلا برضاه. ولا يقال إن من اقتصر على كف شهوة البطن والفرج، وترك جوارحه شاردة أنه لم يصم، بل صيامه صحيح كما قال الفقهاء، ولكننا نطلب الصحة والقبول في آن واحد. وقد لخص الغزالي في كتابه الإحياء هذه الدرجات، فقال: اعْلَمْ أَنَّ الصَّوْمَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ صَوْمُ الْعُمُومِ وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص. وأما صَوْمُ الْعُمُومِ فَهُوَ كَفُّ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ عَنْ قضاء الشهوة ... وَأَمَّا صَوْمُ الْخُصُوصِ فَهُوَ كَفُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ عَنِ الْآثَامِ. وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهمم الدَّنِيَّةِ وَالْأَفْكَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَكَفُّهُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ عز وجل بالكلية.