قبل انتهاء عام 1989 كان ثمة شاب يدرس بالفرقة الرابعة في كلية الهندسة قسم العمارة، يهيم حُبا في أفكار المعماري حسن فتحي، ورغم وفاة الأخير في نفس العام، إلا أن محمد الرافعي سلك دربه، تتلمذ على يده، والتهم كُتبه مرارا دون أن يقابله. في مكتب الرافعي للاستشارات المعمارية، تقبع جائزة في الركن الأيسر، ينظر لها المهندس الأربعيني بإكبار، يبتسم قليلا، بينما تعلو محياه نظرة تأمل، لا يكاد يصدق أن 27 عاما من العمل، قادته في النهاية للحصول على جائزة "حسن فتحي" للعمارة لعام 2106، والتي تُنظمها مكتبة الإسكندرية كل عام. مطلع نوفمبر 2016 تم الإعلان عن فوز المهندس الرافعي بالجائزة، والتي تضمنت هذا العام مشروعات المباني الترفيهية ومراكز التسوق، ومشروعات المهندسين المعماريين المصريين خارج مصر، إذ كان مشروع الرافعي في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية. حين تخرج الرافعي، كان قد تشبّع بأفكار الراحل حسن فتحي "وقتها قرأت كتاب عمارة الفقراء وكنت حاسس إنه قاعد معايا وبيكلمني"، ظل يبحث عن طريق للتقرّب من نهج أستاذه، حتى قابل زينب الديب -أحد المهتمين بعمارة القرى المصرية- عام 1990 "كانت بتشرف على 10 مشاريع تنموية بتتنفذ في مصر على نفس نهج حسن فتحي.. قررت أتطوع معاهم ببلاش". بدأت رحلة المهندس من تلك النقطة، صارت أفكار فتحي حقائق يلمسها بيديه يوميا. كمن يدخل الجنة لأول مرة كان الرافعي. ذهب إلى أسوان "قعدت مع البنايين وشوفتهم بيضربوا الطوب إزاي واتعلمت منهم". ضمن هؤلاء قابل الحاج فتحي أو "شيخ البنّايين"، حيث كان عمه الحاج علاء الدين هو البنّاء المرافق لحسن فتحي. ظل الرجل يشد على يدي الفائز بالجائزة، يُعلمه أصول "الشغل" على الأرض، وفي منتصف الرحلة اكتشف الرافعي كنزا جديدا "الطوب الطيني.. وهو نفس اللي استخدمه فتحي في بناء البيوت". قامت فلسفة فتحي، والذي تحل اليوم ذكرى ميلاده ال117، على استخدام عناصر البيئة المُحيطة لصناعة المساكن، علم أن المعمار رسالة قبل أن يكون مهنة. مثّلت تجاربه نقطة تحول في مسار المهنة، سار عليها كثير من معماريي العالم الغربي، كان يهتم بالتنمية، فمثلا عندما بنى قرية "الجرنة" في الصعيد، أحضر حرفيي المنطقة ليصنعوها. أراد الراحل كسر منطق العولمة في جعل كل المباني مُتماثلة. رغم ذلك لم يستسلم المهندس الأربعيني للانبهار بالطوب الطيني "كنت أخدها وأروح بيها كلية هندسة وأدخّلها في مكابس عشان أشوف درجة قوتها". تأكد من تحمّلها الضغط الشديد أكثر من الطوب الأحمر المُستخدم في البناء حاليا "كانت الطوبة الحمراء تستحمل جدا بس تنفجر في الآخر عكس الطيني كان يتمدد كل ما المكبس يضغط عليه بس ميجرالوش حاجة"، يُشبّه المهندس الأمر بعود الزرع الذابل والأخضر، فالأول ينكسر، فيما ينثني الآخر فقط. "كل يوم كان شغفي باللي بيقدمه حسن فتحي بيزيد".. اتسعت رقعة عمل الرافعي، حضر العديد من المؤتمرات الهندسية، أحدها عُقد في مدينة أنشاص بالشرقية وتحدث القائمون عليه عن "طوب التربة المضغوط"، والذي يُشبه الطيني مع إضافة الحجر الجيري "المعماريين من خارج مصر وقتها كانوا بيقولوا إحنا بنمشي على درب حسن فتحي"، أثّر ذلك في التلميذ بالسلب "كان يصعب عليا إن واحد زي الراجل دا مش واخد حقه هنا"، ظل ينشر فلسفته "كنت عامل زي اللي بيبشر بدين جديد"، استغل الظروف المُتاحة ليُجرّب، بينما جاءته الفرصة للتطبيق عام 2003. في تلك السنة أعلنت المملكة العربية السعودية عن مسابقة لتصميم مسكن مُيسر، شارك فيها حوالي 800 ألف مهندس من 26 دولة، فاز الرافعي بالمركز الثالث، وصار العربي الوحيد الذي وصل لتلك الدرجة المتقدمة "كانت فكرة البيت قائمة على البناء بطوب التربة المضغوطة"، وبالتوازي حضر مؤتمرا في الرياض عن البناء بنفس الطريقة "قدمت ورقة في المؤتمر عن أهمية البناء بالطوب دة"، ما لفت نظر أحد الأشخاص لتصميماته. في رحلة الرافعي على درب فتحي، كان كثيرا ما يشعر أنه يُحارب في معركة غير عادلة "مبقاش مهندسين كتير عندهم ثقافة المعمار، بقى الأمر كله بيزنس"، يعرف أن تحويل المعمار لفلسفة مرتبطة بالبيئة، يستلزم عميلا مثقفا كذلك "هنا بقى العمارة بترجع لأصلها ومبتبقاش لصالح اللي يدفع أكتر بس، بتبقى لصالح الجمال". طلب العميل من الرافعي، تصميم منزل في مزرعته "كان عجبه التصميم اللي فزت بيه في الرياض". اقترح المهندس المصري بعض التفاصيل؛ أهمها نوع الطوب واستخدام القباب في تغطية سقف المنزل، وأخيرا الحيطان الحاملة "لأنها أرخص وعازلة للحرارة وأنسب من الخرسانة"، حيث تقلصت تكلفة الطوبة الطينية عن الحمراء، بنسبة تصل إلى 15%. وافق صاحب المنزل على الاقتراح "بقينا ناخد من الصحراء حوالينا ونعمل الطوب في مكابس اشتريناها". استغرق البناء عدة سنوات، خرج المشروع عام 2010، دون عِلم أن ذلك المنزل سيفوز بجائزة حسن فتحي عقب ست أعوام. لم ينس الرافعي من تعلم على أيديهم. استدعى الحاج فتحي وأبناءه حينما بدأ مشروع السعودية "كان دايما بيدعمني ويقولي انا معاك في أي حاجة"، يتذكر كيف تفانى الحاج فتحي "كان بيغزل مش مجرد بيرص طوب.. لدرجة إن في بعض المشاكل تقابله في الشغل كان يحلها من غير ما يرجع لي وتطلع جميلة". عندما أنهى المعماري مشروعه الأول في السعودية، توالت التصاميم الأخرى "كل مرة بعمل فيها بيت بحس إنه ابني"، مازال يذهب إلى بيت المزرعة أحيانا، يتفحّص المبنى، ويُعالج ما يحتاج لصيانة، دون أن يُطلب منه. لم تكن جائزة حسن فتحي، هي النجاح الأول لمكتب "أديم" للاستشارات الهندسية، التي يرأسها الرافعي، إذ شارك بمشروع بيت السعودية في جائزة الأغاخان للعمارة الإسلامية "في الهندسة بنشبهها بنوبل"، رُشح البيت للفوز بعد تصفية لأكثر من 3000 تصميم حول العالم، ورغم أنه لم يصل للقائمة القصيرة، إلا أن إدارة المؤسسة نشرت تفاصيله على موقعهم الرسمي، تقديرا للفكرة والمجهود. لم تسنح الفرصة للرافعي، كي يطبق أفكار فتحي في مصر "للأسف البعض هنا اختزل المعماري العظيم في توظيف بصري للبيت.. يعني قباب وأقبية دون الفلسفة نفسها"، إلا أن ثمة مشروع على نفس النهج، يلوح في الأفق، داخل أحد المحافظات المصرية، يأمل المهندس المعماري أن تكتمل التجربة بشكل جيد. يتمنّى الحائز على الجائزة أن يستكمل طريق أستاذه "دة صعب طول الوقت لأن الناس أفكارها مش واحدة.. لو عليا أشتغل في البيوت دي علطول"، لذا حينما تأتيه الفرصة، يُحلّق في عوالم البيوت الصديقة للبيئة، المُعبرة عن الحضارة، المُريحة للعين والنفس، يؤمن الرافعي أن المنازل سيمفونية، تُصنع على أعين أصحابها، وتتكامل مع كيانات ساكنيها، فتحتويهم بين حوائطها وفلسفتها.