حَواري مصرية بسيطة؛ شوارع وأزقة ضيقة؛ بيوت متلاصقة تظلل على بعضها البعض؛ فلا تدخل شمس الظهيرة إلى شوارعها إلا قليلًا؛ كثير منها ظهر عليه التآكل وقليل بدا مهجور، والبقية لم يختف عن جوارها هدم منزل أو ركام قمامة. ''زينة'' شهر رمضان ظهرت بالمكان من شارع لآخر؛ معلقة في حبال تربط بين البيوت وتتدلى من شرفاتها الصغيرة، ولم يخلُ الأمر من ''فانوس'' كبير من الورق المقوى ''أحمر اللون'' معلقًا على أحد البيوت؛ عله يعبر عن حضور الشهر الكريم. الحواري المترابطة بمنطقة ''بولاق أبو العلا'' والمتواجدة بالقرب من مبنى التليفزيون ''ماسبيرو'' بميدان التحرير، في إحدى أيام رمضان كانت خاوية على عروشها إلى حد كبير؛ فمدخل الحارة عبارة عن مجموعة من الورش التي أُغلق بعضها بشكل دائم، والآخر اتخذ إجازة ليوم واحد؛ وأيًا ما كان الانطباع الأول عن المنطقة من شكلها الخارجي؛ فإن أزقتها الداخلية حالها مختلف؛ حيث تعج بالبشر الراضين بالحال وغير الراضين، لكنها لم تفقد روح الحارة المصرية التي لم يكف أهلها على الرغم من كثرة همومهم عن الأمل والابتسام وكلمة ''يارب''. وداخل أمتار صغيرة كونت ورشتهم، أخذت أيديهم تسحب أعواد الخوص المفترشة الأرض، واحدًا تلو الآخر دون توقف إلا بانتهاء وضع العود بمكانه ليشكل حلقة حول الأساس الخشبي الموضوع. هذه المهنة التي اعتادت أيدي كل من ''أنور'' و''مصطفى'' على القيام بها خاصة منذ عامين، عندما قرر الأخير إعادة فتح ورشة والدة لتصنيع أثاث الخوص مرة أخرى، بعد أدائه الخدمة العسكرية؛ فلم يكن أمام ''مصطفى''، 28 عامًا، وصاحب المؤهل العالي غير العمل في أي شيء. ''أنور'' أحد مواليد المنطقة القدامى، يرى وما زالت يده تعمل على إنهاء القطعة التي بيده، أن رمضان هذا العام ''الناس تعبانة جامد مش زي كل سنة''. ''لما يبقى في شغل يبقى في خير''.. قالها ''أنور'' شاكيًا أحوال المنطقة التي لا تختلف عن غيرها من المناطق الشعبية المنشغل أهلها بالسعي وراء الرزق؛ فهو ''لا مع دول ولا دول بتفرج على الأحداث بس''، واصفًا حال المنطقة في رمضان ''الخير قل على المنطقة، كان زمان في رمضان تلاقي ناس تيجي المنطقة توزع شنط رمضان، الحاجة بتاعة ربنا قلت، واللي معاه بيخاف لأحسن أحوال البلد تتقلب، فمبقاش معاه بعد كده حاجة''. ''مصطفى'' لم يختلف رأيه عن ''أنور'' فقال:'' الناس تعبانة أكتر من الأول''، لكن كلاهما جاء بموقف مختلف من الأحداث. '' أنور'' تعاطف مع ''مرسي'' بعد عزله رغم عدم رضاه عن فترة حكمه؛ فهو على حد زعمه ''كان بيقول حيعمل حاجة واتكلم عن المعاشات كنا سبناه''، أما ''مصطفى'' فيرى أن ''كل واحد لما بيتكلم بيفكر في مصلحته الخاصة مش المصلحة العامة''. وعلى الرغم أن ''مصطفى'' لم يشارك بثورة يناير لالتحاقه بالجيش وقتها، لكنه شارك في ''30 يونيو''، معتبرًا المصلحة العامة التي يفكر بها هي ''أن يكون في فرص شغل أكتر، والاقتصاد بتاع البلد يتعدل لأنه رايح في داهية''. وعلى الرغم من ذلك إلا أن الإثنين اتفقا أن المنطقة في رمضان شهدت غياب المظاهر التي اعتادها؛ فموائد الرحمن أصبح عددها واحدة بدلًا من إثنين أو أكثر بالسابق؛ حيث قال ''أنور'': ''كنا نروح الجامع مثلا نصلي ونلاقي حاجات ناكلها أو ناخد شنطة لعيالنا، السنة دي مفيش، الواحد اللي بيخليه ياخد هو إنه عايز يفرح ولاده''. كما أن كلا الجانبين من المعارضين والإخوان كانوا في رمضان كثيري التردد على المنطقة لمساعدتها بشنط رمضان، أما هذا العام اختفى ذلك إلا من قليل ''الثورة في التحرير والإخوان محدش ينكر كانوا بيساعدوا المنطقة، لكن لو المساعدات في رمضان 100% قبل كده السنة دي 20%''، على حد قول '' مصطفى''. وأمام مقهى بدا عليه القدم والبساطة كحال المنطقة وقف ''حسن'' بين خلو الشارع عدا قليل من المارة، والمقهى من الزبائن، وقال الرجل الستيني، إن المنطقة لم تكن تشهد مثل هذا الهدوء؛ حيث كثير من المحال أغلقت أبوابها، نظرًا للأحداث وظروف البلد وإنه لا يشعر برمضان هذا العام. ''الشعب المصري ميعجبهوش حاجة، مرسي مسك البلد وهي خربانة ومحدش سابه يعمل حاجة''.. قالها ''حسن'' القادم من سوهاج منذ سنوات لتصبح منطقة ''رملة بولاق'' مسكنه ومكان عمله بالمقهى الذي ورثه عن والده، معلقًا عن الأحداث التي لم تغب عن الحديث، مؤكدًا أن أحوال المنطقة أصبحت ''كل واحد في حالة''. ''حسن'' لا يريد شيئًا سوى صلاح حال هذا البلد؛ فهو'' أنا علمت ولادي الأربعة الحمد لله، الواحد هيحتاج إيه تاني أكتر من كدة يبقى طمع''. وبأحد أزقة المنطقة، كان ''حوش'' منزل بدا وكأنه حجرة؛ جلس كل من أم وأبو ''إسلام'' في ضوء النهار الخافت الذي يكاد ينير المكان، انتظارًا لأهالي المنطقة الراغبين في شراء أكياس ''العرقسوس'' المحدودة العدد والموضوعة على تلك المنضدة أمام ''الحوش''. ''الحالة صعبة أوي السنة دي الأكل والشرب وكل حاجة ''.. قالتها ''أم إسلام'' موضحة سبب ذلك ''المظاهرات وحال البلد، الناس ظروفها صعبة والله الناس محستش بفرحة رمضان''. ''أبو إسلام'' الذي يمارس عمله في بيع ''العرقسوس'' أيضًا لكن في الشوارع خارج المنطقة، لم تختلف كلماته عن زوجته في أن ''الحال مش ماشي والله زي الأول، البيع قليل وأهي ماشية الحمد لله''، وأضافت ''أم إسلام'' أن ''الكمية اللي كنا بنبيعها قلت عن كل سنة، والله كل يوم بنرمي كتير من اللي بيفيض''، متمنيًة كغيرها أن ''ربنا يصلح حال البلد''. ''عبد الفتاح''، أحد سكان المنطقة، وقف في محله الصغير ممسكًا المكواة وحديثه يتخلله كلمات الحمد؛ فرمضان بالنسبة للرجل الستيني الذي ترك مكواة ''الرِجْل''، مستخدمًا الحديثة نظرًا لكبر السن والمرض ''شهر خير وكله حلو الحمد لله''، والأحوال اعتاد عليها ما بين ''يوم كده ويوم كده عادي الحمد لله''. بينما وقف خارج ورشة صغيرة للأثاث رجل تجاوز عمره الخمسين، وتبدو عليه علامات التدين، يضع أمامه بعض أجزاء خشبية ل''سرير'' غير مكتمل؛ حيث يختلط صوت طرقه عليها مع صوت إذاعة القرآن الكريم الصادر من الراديو. ''سيد'' الذي يقطن بمنطقة ''بولاق أبو العلا'' منذ ولادته لم يبدُ عليه اليأس من أحوال رمضان هذا العام، رغم ضيقه بالأحوال عمومًا ''الحالة سيئة للغاية السنة دي''، وكغيره من أهالي ''بولاق'' يعتقد ''سيد'' أن حال البلد أصبح أصعب بسبب المظاهرات ''أنا شايف إن مفروض الناس تهدى ونسيب الناس تروح شغلها''، مضيفًا أنه يرى ''مرسي'' أخطأ في إدارة الدولة، وكان يستمع لآراء من لا يجب الاستماع لهم ''بس ده مش معناه إني أعمل ثورة عليه وأحرق المحلات''. التفاؤل هي الكلمة التي تصف حال ''سيد'' رغم كل شيء؛ فهو متأكد أن ''القلق اللي حاصل في البلد دلوقتي مرحلة لازم نمر بيها وهتعدي على خير''.