تحتفل مصر بعد غد السبت السادس من أكتوبر بذكرى مجيدة خالدة مرور 39 عاما على انتصار أكتوبر 73 الذي حرر الأرض وأعاد سيناء إلى حضن الوطن، وسيظل هذا اليوم يوما للنصر، وتاريخا للعزة والكرامة، وباعثا على الفخر للقوات المسلحة ولكل أبناء مصر، كما سيظل للأبد نجما لامعا في سماء المنطقة يضيئها بنور الفداء والتضحية والولاء للوطن. والاحتفال بانتصار أكتوبر هذا العام يكتسب مذاقا خاصا ، فإذا كانت القوات المسلحة حررت الأرض ، وحمت ثورة الشباب في 25 يناير 2011 ودافعت عنهم وحافظت على أرواح أبنائها ، فإنها أيضا أوفت بوعدها بتسليم السلطة لرئيس منتخب انتخابا ديمقراطيا وفق إرادة الجماهير في أول انتخابات حرة ونزيهة ، وبذلك يتعزز العبور العسكري في أكتوبر 73 بعبور سياسي ناجح إلى الديمقراطية. وتتهيأ مصر الآن لبناء مؤسساتها الديمقراطية وإعداد دستور جديد للبلاد وتحقيق سيادة القانون ضد الفوضى والانفلات، ويرى المراقبون أن الشيء الوحيد الذي تحتاجه مصر الآن هى تنحية الخلافات والتفرغ للبناء بروح الفريق وليس بروح الفصيل أو التيار السياسي، وتبدو الأمور مرهونة بعودة روح السادس من أكتوبر، فإذا لم تتحقق هذه الروح العظيمة فلن يكون هناك عبور أو تقدم ، فالأمم تتقدم بوحدة الصف والهدف لا بالتناحر وتصفية الحسابات مع الماضي وإنما بالتقدم إلى المستقبل. ومع نسمات السادس من أكتوبر يعود الأمل بأن تستعيد الأمة قوة إرادتها وإيمانها الكامل بقدرة أبنائها على حمايتها واستعدادهم الدائم للدفاع عنها والتضحية من أجلها ضد كل من تسول له نفسه المساس بحبة رمل واحدة من أرضها المقدسة فلأول مرة منذ انتصار أكتوبر يشعر المصريون بأن النصر القادم هو على الإرهاب الأسود وأيادي الغدر التي حاولت أن تغتال أمن واستقرار الوطن ويحتل قطعة غالية على قلوب المصريين جميعا سيناء حيث تشهد الآن ملحمة عبور جديدة تقوم بها القوات المسلحة /نسر 1/ و/نسر 2/ وما جرى بعد ذلك من تعديل الاسم إلى سينا، لاستردادها من الإرهاب الأسود الذي اتخذ منها مسرحا لتنفيذ عمليته الجبانة التي لا هدف منها إلا زعزعة الاستقرار وضرب الأمن القومي لمصر وتفكيك مؤسساتها. وأكد الخبراء العسكريون أن ما يتم حاليا في سيناء هو محاولة جديدة من قبل القوات المسلحة لاستعادة الأمن فيها والقضاء على البؤر الإجرامية والإرهابية التي عششت بها طوال السنوات الماضية. وتسترجع مصر هذا الانتصار العظيم الذي مر عليه 39 عاما وتهل وقائعه حاملة معه عطر الشهادة، هذا الانتصار الذي أعاد رسم خريطة العالم وقواه السياسية وليس خريطة أسيا وأفريقيا فقط ، هذا الانتصار الذي قهر الغطرسة الإسرائيلية وأعاد للعرب أرضهم وكرامتهم وحطم أسطورة الجيش الذي لا يقهر حيث تكبد خسائر تعد الأضخم في تاريخ حروب إسرائيل والتي فقدت فيها إسرائيل حوالي 2522 مقاتلا بخلاف الجرحى والمفقودين، وانهارت نظرية الأمن الإسرائيلي وتلاشت الفجوة التكنولوجية التي بالغ الإسرائيليون في التهويل من شأنها وأصبح التفوق الجوي الذي كانوا يتصورونه امتياز يتفردون به مجرد وهم وسراب. ولعل شهادات جنرالات إسرائيل عن جرأة وشجاعة المقاتل المصري وروعة التخطيط خير دليل على ذلك فقد قال موشى ديان وزير الدفاع وقتها ''إن حرب أكتوبر كانت بمثابة الزلزال الذي تعرضت له إسرائيل وأن ما حدث في هذه الحرب قد أزال الغبار عن العيون''، كما صرح رئيس المخابرات الإسرائيلية الأسبق تسيفى زامير بأن حرب الغفران أقسى لحظات تاريخ إسرائيل. وسجل الإسرائيلي زئيف شيف تفاصيل الصدمة التي شعر بها كل إسرائيلي في كتاب بعنوان ''زلزال أكتوبر'' وأكد فيه أن حرب أكتوبر هى أول حرب للجيش الإسرائيلي يعالج فيها الأطباء جنودا بأعداد ضخمة أصيبوا بصدمات نفسية وعصبية صدمة القتال، وقال هناك من نسوا أسماءهم من هول الهجوم المصري الكاسح. ومازالت حرب أكتوبر تشكل بعد 39 عاما هاجسا لإسرائيل بكونها الدولة التي لا تقهر حيث أدركت بعد هذه الحرب أنه ليس بوسعها توسيع رقعتها الجغرافية من خلال الغزوات العسكرية كما حدث عامي 48 و 67 فهذه الحرب ربما رسمت حدود التوسع الإسرائيلي وأظهرت لغالبية الإسرائيليين أن ليس بإمكانهم التوسع أكثر، لقد ظلت جرحا مفتوحا في المجتمع الإسرائيلي لم يندمل حتى الآن، وحطمت الأساطير التي نشأوا عليها. لقد كان انتصار أكتوبر 73 معجزة بكل المقاييس وذلك لأن هزيمة 67 ألقت بظلالها على مصر كلها وطالب الشعب بالحرب والثأر ، فبعد دراسات عديدة تأكدت أن العسكرية المصرية لم تدخل حرب 67 بل كانت ضحية ومع هذا فإنها سرعان ما تمالكت نفسها وبدءا من 11 يونيو بدأت إعادة البناء على أسس سليمة وحشدت كل كفاءتها للتصدي للاحتلال وإيقاف أية محاولات للتوسع لذلك كانت معركة رأس العش التي منعت تقدم القوات الإسرائيلية ، شرقي القناة لاحتلال بور فؤاد جنوب بورسعيد، وبدأت حرب الاستنزاف من 68 - 1970 التي اعترف الإسرائيليون أنها حرب قائمة بذاتها كما ذكر ذلك مناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل الأسبق ، والتي طالبت إسرائيل في نهايتها باتفاقية وقف إطلاق النيران في 8 يوليو 1970. وكانت المهمة صعبة ست سنوات ونصف سبقت الحرب تم خلالها إعداد الدولة للحرب بإعادة بناء ثقة القوات المسلحة في ذاتها، وإعادة بناء الثقة بين الجيش والشعب، وتغيير قيادات القوات المسلحة وفق معايير الكفاءة الوطنية والاحتراف العسكري والقدرة القيادية والقتالية وإعادة تنظيم القوات المسلحة وتسليحها وتدريبها ، وتمكين المخابرات العامة والحربية من ممارسة دورهما الوطني المشهود له في المعركة. وهكذا فرغم مرارة الهزيمة وتحت نيران حرب الاستنزاف وتحت شعار ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة تم بناء جيش وطني قوي وهو ما جسده شن حرب الاستنزاف الباسلة بعد شهور من الهزيمة. ومن ناحية أخرى، تم إعداد الجبهة الداخلية لخوض حرب تحرير التراب الوطني وذلك بسياسات تعبئة القدرة الاقتصادية الوطنية اللازمة للدفاع والتحرير، ومواصلة التنمية والتصنيع تحت شعار ''يد تبني ويد تحمل السلاح'' والعمل على استقرار السلع الأساسية وتعزيز القطاع العام، وإصدار بيان 30 مارس استجابة للمطالب الجماهيرية بالمكاشفة والمشاركة. أما على الصعيد العربي والدولي فقد وقف شركاء مصر عربيا وعالميا متضامنين معها ومقدمين ما في قدراتهم ومصالحهم لما طلبته من سلاح ومال وغير ذلك من عون ، ولم يكن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر مستعدا للتفاوض مع إسرائيل وكان أول من وقع على قمة الخرطوم بأن ''لا تفاوض.. لا اتفاق لا صلح مع إسرائيل'' . ومن ناحية أخرى، طالب الاتحاد السوفيتي باستشراف فرص الحل السياسي مع الولاياتالمتحدة وقد اشترط جمال عبدالناصر عدم التفاوض مع إسرائيل طالما استمر الاحتلال وعدم التنازل عن أي أرض عربية، مؤكدا أنه بغير هذا يستحيل على أي طرف عربي أن يقبل تسوية يستطيع أن يدافع عنها أمام الجماهير. وقبل عبدالناصر مبادرة روجرز ووقف إطلاق النار وكان قبوله كسبا للوقت اللازم لبناء حائط الصواريخ على الضفة الغربية من قناة السويس ولتعزيز الدفاع الجوي ضد غارات إسرائيل على العمق المصري إلى جانب تقديم البرهان للاتحاد السوفيتي والرأي العام العالمي على استحالة الحل السلمي .. ولكن جمال عبدالناصر رحل قبل أن يستكمل مهمته واستكملها الرئيس الراحل أنور السادات. وبدأ الاستعداد للحرب سواء من حيث دراسة العدو أو إعداد خطة العبور، أو بالتدريب على الخطط للحصول على أعلى درجات الكفاءة في التنفيذ، أو أساليب الخداع التي اتخذت على مستويات متعددة شملت المستوى الدولي والمسرح السياسي ووسائل الإعلام. ويرى الخبراء العسكريون أن التخطيط لاختيار توقيت بدء المعركة عملا اتخذ فيه الأسلوب العلمي بأجلي صوره من حيث الشهر، واليوم، والساعة، فقد اختير شهر أكتوبر بسبب جو الخريف الصافي ولطول فترة الليل به حيث يبلغ 12 ساعة بما يسمح بمواصلة العمل بعد العبور طوال الليل، ولموافقة حلول شهر رمضان به، حيث يظن انشغال المسلمين بالصيام عن العمل، كما أنه في هذا الشهر يوافق حلول ثلاثة أعياد يهودية تعطل فيها الأعمال ويكاد العمل يصل فيها لدى أغلب المتدينين من اليهود إلى حد التحريم. واختير يوم السادس من أكتوبر ليوافق العاشر من رمضان حيث يكون الليل مقمرا ، وليوافق يوم السبت وهو ''عيد الغفران'' لدى اليهود وفي مثل هذا اليوم أيضا يكون الفرق بين منسوب مياه القناة في أثناء المد والجزر غير كبير. واختيرت الساعة الثانية لتكون قمة المفاجأة في عدم تعود الجيوش على ذلك؛ حيث شاع بدء المعارك في أول ضوء أو أخر ضوء، وكان أيضا اختيار هذا التوقيت ليتيح مدة تقرب من أربع ساعات قبل غروب الشمس وتكون كافية لتحقيق ضربات الإحباط التي يقوم بها الطيران والمدفعية وأفواج العبور الأولى، وتكون كافية لنقط المراقبة وطائرات الاستطلاع لتصوير نتائج هذه الضربات، وليبدأوا بعد حلول الظلام في مد كباري العبور. وخلال هذه المدة الوجيزة يصعب على العدو الرد قبل حلول الظلام حيث تكون مطاراته معطلة ويلزمه على الأقل ست ساعات لإصلاح ممراتها ولذلك فلن يستطيع القيام بهجوم مضاد، كما لم تتمكن طائراته من العمل بحرية إلا في صباح اليوم التالي، وفي مثل هذا الوقت أيضا تكون الشمس مائلة عن السحب وتميل نحو المغرب حيث يصعب على العدو متابعة الحركة في هذا الاتجاه. أما عنصر المفاجأة فكان من حيث التنسيق بين مصر وسوريا لتشمل جبهتين متباعدتين لتوقع إسرائيل في حالة من التخبط والارتباك. وفي الخامس من أكتوبر كانت القوات المصرية على الجبهة في أقصى درجات الاستعداد وأصدر الرئيس الراحل أنور السادات توجيها استراتيجيا إلى الفريق أحمد إسماعيل القائد العام بتكليف القوات المسلحة بتنفيذ المهام التالية، إزالة الجمود العسكري الحالي بكسر وقف إطلاق النار اعتبارا من يوم 6 أكتوبر، وتكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة في الأفراد والسلاح والمعدات، العمل على تحرير الأرض المحتلةسيناء على مراحل متتالية حسب نمو وتطور إمكانيات وقدرات القوات المسلحة. وبدأت المعركة في 6 أكتوبر الساعة الثانية بالضربة الجوية وفي الثانية وخمس دقائق بدأ تمهيد المدفعية لمدة 53 دقيقة لحماية موجات العبور في القتال، لقد أفقدت القوات المسلحة العدو توازنه في ست ساعات تحقق فيها النصر ليمحو للأبد حرب الأيام الستة التي كانت تتباهى بها إسرائيل. وذكر المحللون العسكريون أن مراحل الحرب كانت كالتالي المرحلة الأولى من 6 إلى 13 أكتوبر مرحلة تحقيق المهمة الرئيسية للقوات المسلحة تم فيها عبور 14 ألف مقاتل في أول 6 ساعات وفتح 18 ممرا خلال من 3 إلى 5 ساعات وأهم أهدافها صد الهجوم المضاد الإسرائيلي يومي 8 و 9 أكتوبر وتدمير 400 دبابة و40 طائرة، أما المرحلة الثانية فكانت يوم 14 أكتوبر وهى مرحلة تطوير الهجوم، ثم المرحلة الثالثة من 15 إلى 17 أكتوبر وهى مرحلة معارك المدرعات الكبرى، والمرحلة الرابعة من 18 - 28 أكتوبر مرحلة حسر العدو غرب القناة ، ومرحلة الاستنزاف بعد وقف إطلاق النار لمدة 80 يوما وبإيقاف النيران وبواسطة الولاياتالمتحدة أجرى مباحثات الكيلو 101 وعقد اتفاقية فض الاشتباك الأول والثاني. إن المعجزة التي تحققت لم تكن على مستوى الجبهة العسكرية وحدها وإنما كانت أيضا على مستوى الجبهة الداخلية حيث كان سلوك الشعب حضاريا ومرتفعا إلى مستوى الحدث ومسئوليته فلم يندفع المصريون على شراء السلع وتخزينها ولم يرفع التجار أيضا أسعار السلع. ويرى المراقبون أن من أهم نتائج حرب أكتوبر عودة الثقة في المقاتل وأنه إذا أحسن الاستعداد يصنع المستحيل، ومن أوضح النتائج أيضا سقوط الدعاية الكبيرة على إمكانيات جهاز الموساد الإسرائيلي كأحد أقوى أجهزة المخابرات فقد تمت كل الاستعدادات تحت نظره ولم يعرف أن الحرب قادمة، كما أثبتت الحرب أهمية التخطيط العلمي والعلم والتكنولوجيا واستخدامها في كل عمل جاد لمصلحة الوطن. وأكدت حرب أكتوبر أيضا أن التضامن العربي يمكن تحقيقه إذا خلصت النوايا وبالاتحاد والتضامن يمكن أن يكونوا قوة سادسة في العالم ، فالتفاف الدول العربية حول مصر ودول المواجهة وما قدمته من تأييد معنوي ومادي واستخدامهم سلاح البترول أثناء المعركة أسهم كل ذلك في تحقيق النصر، ولو استمر هذا التضامن لكان حل الصراع العربي الإسرائيلي سهلا وبه يمكن إعادة الحقوق الفلسطينية إلى أهلها. ومن أهم ما نبهت إليه حرب أكتوبر أهمية تعمير وتنمية سيناء لأنها البوابة الرئيسية لمصر وبتعميرها تقل فرص التعرض لأي خطر يهددها، ثم كان إعادة فتح قناة السويس وعودتها للملاحة مرة أخرى .. وبانتصار أكتوبر فتحت مصر طريق السلام واستردت ما تبقى من الأرض حتى أخر بقعة طابا، كما فتحت مصر الطريق لسلام الشرق الأوسط الذي سيظل ساحة اضطراب وقلق في غياب تسوية عادلة للقضية الفلسطينية. إن ذكرى الانتصار ستظل ماثلة دوما في وجدان الشعب المصري لأنها اقترنت بمعان ودلالات كبيرة وقدمت درسا بليغا في العناد الوطني نحو استعادة الأرض كما قدمت ثورة يناير 2011 درسا أكثر بلاغة في العناد الوطني من أجل كرامة الإنسان.