''البلد مريض بالتعصب... يريدون أن يرجعونا أربعة عشر قرناً إلى الوراء''.. هذه المقولة، النبوءة، قالها نجيب محفوظ في روايته ''يوم قُتل الزعيم'' التي صدرت عام 1985، ورصد فيها عميد الرواية العربية التغييرات التي حلّت بالمجتمع المصري في السبعينات، وأبرزها نمو اتجاهات التطرف والتعصب وسطوة تيار الإسلام السياسي. في هذه الرواية يصف محفوظ الأجواء التي سبقت مقتل الرئيس الأسبق أنور السادات على يد إحدى الجماعات الإسلامية، رغم أنه كان هو الذي أطلق العنان لتلك الجماعات – مثلما يتهمه كثيرون - وذلك لكي يحارب المعارضة التقليدية المتمثلة في اليسار المصري. وما لبثت الجماعات المتطرفة أن هاجمت محفوظ نفسه في عام 1994 عندما تربص بالروائي شاب لعله لم يقرأ له كلمة واحدة، وطعنه بالسكين في عنقه طعنةً ظل يعاني محفوظ من آثارها حتى توفي في عام 2006. ''يريدون أن يرجعونا أربعة عشر قرناً إلى الوراء''. يتذكر عديدون هذه المقولة المحفوظية عندما يستمعون إلى تصريحات قادة التيار السلفي في مصر الذي حقق نتائج مدهشة في المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية المصرية. أبرز تلك التصريحات ما أعلنه القائد بحزب النور السلفي عبد المنعم الشحات. زعم الشحات أن أدب محفوظ – الذي تحتفل مصر بمرور مئة عام على مولده في الحادي عشر من ديسمبر– ''يحض على الرذيلة'' وأنه يدور ''حول الدعارة وأوكار المخدرات''، كما أن بعض رواياته تحمل ''فلسفة إلحادية''. هكذا أطلق الشحات حكمه المطلق على كل أدب نجيب محفوظ – تُرى هل قرأه؟ ليس هذا هو السؤال المطروح، إذ لم ينتخب أحد السلفيين – مثلما كتبت الروائية سحر الموجي على صفحتها على الفيسبوك – لكي يعطوننا رأيهم في الأدب والأدباء، بل لكي ينهضوا بمصر ''في مجالات التعليم والصحة ومكافحة الفقر''. فهل لديهم هذا البرنامج؟ هذا هو السؤال المطروح. الهجوم على أعمال نجيب محفوظ ليس جديداً، لا سيما بعد أن كتب ''أولاد حارتنا'' (1959) التي ظلت سنوات طويلة ممنوعة في مصر بسبب ما أثارته من جدل ديني. وعندما نال محفوظ جائزة نوبل في عام 1988 زعم المتحدثون باسم الإسلام السياسي في مصر أن الجائزة ''جزء من حرب صليبية جديدة على العالم العربي''، مثلما يقول الناقد جابر عصفور في كتابه ''زمن الرواية''، وكان ''دليلهم'' على ذلك أنها لم تمنح إلا لروايات ''كاتب تخرج مجموعة من أعماله على العقائد الإسلامية''. والآن يتجدد هذا الجدل مع احتفال مصر بمئوية عميد الرواية العربية، والأديب العربي الوحيد الحاصل حتى الآن على جائزة نوبل. فهل ستشهد مصر في الفترة القادمة، ومع الأغلبية المتوقعة للتيار الإسلامي في البرلمان المصري، اختفاء لبعض أعمال محفوظ؟ أم أنها ستتعرض لرقابة ''أخلاقية'' تؤدي إلى حذف هذا المشهد أو ذاك من إحدى رواياته، وهو ما حدث قبل سنوات لروايات إحسان عبد القدوس، عندما أراد الناشر أن يعيد طبعها، فقام ''بتهذيبها'' وحذف المشاهد التي لم ترق لذوقه المحافظ. أم هل سيصل الأمر إلى حرق روايات محفوظ في ميدان عام، باعتبارها ''تحض على الرذيلة والفسق''؟ يقول القاص سعيد الكفراوي مجيباً على هذه التساؤلات، ويضيف في حديث مع دويتشه فيله أن مصر - في هذه الفترة التي أسفرت عن سطوة ''السلف الصالح'' في الانتخابات ''بتمويل من بلاد النفط'' - تفتقد إلى رؤية مثل رؤية محفوظ، ''رؤية تبصر وتطرح أسئلتها مثلما طرحتها في 46 عملاً''. (للاستماع إلى الحديث الكامل للقاص سعيد الكفراوي اضغط على الرابط أسفل المقالة) ويرى الكفراوي أن ''الإسلاميين يجيئون الآن وهم يحملون روح الانتقام من كل السنوات الماضية'' التي تعرض فيها التيار الإسلامي إلى قمع وتهميش وصل إلى حد إعدام بعض أفراده، مثل سيد قطب. وهذا هو سبب تلك ''التصريحات المذهلة التي نسمعها الآن'' التي تنادي بتغطية التماثيل أو مصادرة الأعمال التي ''تتنفس بالحرية''. ويشير الكفراوي في حديثه إلى دويتشه فيله إلى قدرة نجيب محفوظ على التنبؤ بالمستقبل: ''نجيب محفوظ أحد الكتاب الكبار الذين قرأنا في أعمالهم المبكرة إشارات أساسية لنمو تيار الإسلام السياسي. لقد كان – رحمه الله – أحد المتنبئين الكبار''. أما الروائي إبراهيم عبد المجيد فيقول لدويتشه فيله إن الشحات ''رجل يسعى إلى النجومية الإعلامية فقط. عندما أراه أضحك، لأني أشعر بأنه قادم من تاريخ قديم''. ويؤكد عبد المجيد أهمية ''التصدي للشحات بالكلام والكتابة وبالفعل، ولذلك يجب أن يكون الاحتفال بنجيب محفوظ كبير جداً''. ويقترح على الجمعيات الثقافية والأهلية أن تنظم أسابيع لأفلام محفوظ لمواجهة هذا النوع من ''الغباء الفكري''. اقرأ ايضا: ذكرى نجيب محفوظ تستحوذ على قلوب السويسريين