استيقظ أحمد على صوت الرصاص واستطاع أن يسمع أصوات المسلحين وهم يطرقون باب أخيه وألسنتهم تطلق الشتائم وتصف أفراد الاسرة بأنهم كلاب. قالت زوجة أخيه إن المسلحين أمروا زوجها بان ينحني للرئيس بشار الاسد. ثم جر المسلحون الزوج والزوجة وابنيهما الصبيين إلى ساحة القرية. وقال أحمد "أبلغتني بأن ركبة ابنها كانت تدمي لانهم ركلوه وجروه." وعندما انتهت اعمال العنف تجرأ أحمد وخرج من مخبئه بغرفة علوية. في أقل من ساعتين أصبحت البيضا وهي قرية قريبة من البحر المتوسط مسرحا لواحدة من اسوأ المذابح في الحرب المستمرة في سوريا منذ أكثر من عامين. مع تفكك البلاد تحت وطأة الحرب الاهلية حققت قوات الاسد مكاسب ضد مقاتلي المعارضة في هجوم مضاد لتأمين ممر يربط العاصمة دمشق بمعقل الطائفة العلوية الي ينتمي اليها الرئيس على الساحل. وكانت البيضا وهي جيب صغير للمتعاطفين مع مقاتلي المعارضة تحيط بها قرى مؤيدة للاسد مكانا مثاليا للحكومة لتوصيل رسالة قاسية. ويتوقع ان تعقد محادثات سلام دولية في جنيف الشهر القادم لكن لا يوجد أمل يذكر في تحقيق انفراجة لانهاء حرب قتل فيها أكثر من 80 الف شخص. وعلى بعد خطوات من منزله في مكان ما قرب ساحة القرية الرئيسية عثر أحمد على جثة أخيه. وقال وهو يقرأ من مذكراته الشخصية لما رأه "كان مجردا من ملابسه." توقف برهة وتمالك نفسه. وقال "ضرب بالرصاص في رأسه وتركت الرصاصة فتحة في حجم الكف. نزف دمه على الارض." وعلى مدى 90 دقيقة تقريبا وصف أحمد كيف عثر على جثث متفحمة وعلى أدلة تثبت وقوع مذابح : في احدى الحالات 30 رجلا وفي حالة أخرى 20 امرأة وطفلا كانوا مختبئين في غرفة صغيرة. وقرأ اسماء القتلى ووظائفهم واعمارهم وعلاقاتهم ببعضهم البعض والاوضاع التي شاهد الجثث عليها. ترك الهجوم العشرات من اقاربه وجيرانه قتلى. وسجل أحمد كل تفصيلة حتي يصدر التاريخ حكمه. كان اليوم الثاني من مايو ايار .. يوم خميس وبداية عطلة تستمر ستة أيام. عاد كثير من التلاميذ الى بيوتهم ولم يكن لدى رجال القرية أي خطط للمجازفة والخروج الى شاطيء البحر لبيع محصول الخضروات مثلما يفعل كثيرون دائما. لم يكن يوم دراسي للاطفال. صاحت الديوك عندما دخل الرجال المسلحون البيضا وهي قرية تتكون من شبكة أزقة ضيقة كان يسكنها نحو 5000 نسمة معظمهم من السنة. وكانت البيضا التي يمكن مشاهدتها من القرى العلوية المحيطة بها تعيش في سلام مع جاراتها قبل الحرب وتقع خارج بلدة بانياس الصغيرة التي تطل على الخط الساحلي السوري من التلال. ووفقا لناشطين من المعارضة ما حدث بعد ذلك كان حمام دم طائفيا اعقبه آخر في قرية رأس النبع المجاورة. جاء الهجوم على البيضا بعد وقت قصير من مهاجمة حافلة تقل افراد ميليشيا موالية للاسد قتل فيه ستة اشخاص. ويقول المرصد السوري لحقوق الانسان المعارض ومقره بريطانيا ان 300 شخص على الاقل قتلوا في البيضا ورأس النبع. ويقول ناشطون ان الضحايا دفنوا في مقابر جماعية وان الاف الاشخاص لاذوا بالفرار. ولا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي التي تنظر جرائم الحرب ان تحقق في سوريا ما لم تتسلم احالة من مجلس الامن التابع للامم المتحدة وهو شيء عرقلته روسيا والصين. ولزمت الحكومة السورية الصمت بشأن البيضا. لكن ضابط مخابرات سوري طلب عدم الكشف عن هويته اعترف بأن المرتكبين موالون للحكومة وبينهم البعض من القرى العلوية المحيطة. وانحازت البيضا ورأس النبع اللتان يسكنهما سنة الى المعارضة مما وضعهما في موقف خطير وسط القري العلوية الموالية بقوة للحكومة التي تحيط بها. وأصبحت البيضا ورأس النبع ملاذا آمنا للعديد من المنشقين من الجيش كما انضم كثير من الشباب الى الجيش السوري الحر. والان اصبحت البيضا مثل رأس النبع مدينة اشباح. المنازل احرقت ولم يبق أي نساء وبقي عدد صغير فقط من الرجال. وباستثناء عدد صغير من الدواجن اختفت معظم الدواجن والماشية. والطريق الوحيد لكي يدخل غريب البيضا التي تخضع لرقابة امنية حكومية صارمة هو طريق خلفي مترب يتعرج وسط التلال. وقامت رويترز بهذه الرحلة لجمع أقوال شهود عيان. وقال أحمد في منزله المتواضع والمرتب للغاية "استيقظت على أصوات الطلقات قبل السابعة صباحا." وأحضر من غرفة اخرى مذكرة سجل فيها بخط منمق كل شيء شاهده. وحجب أحمد اسمه الكامل وعمله في القطاع العام خوفا من الانتقام. وقال وهو يقرأ من مذكراته "لم يعرف أحد بيننا ما كان يجري. لم يكن بامكاننا ان نعرف أين تسقط القذائف." واختبأت زوجته وأطفاله في البدروم وذهب أحمد الى بيت أخيه الذي يقع في الطابق الاول من منزل العائلة المكون من طابقين. وعندما اصبح صوت اطلاق النار يقترب أكثر حثت والدة أحمد ابنيها على الاختباء. وخلال العامين الماضيين وعندما كانت قوات الامن الحكومية تداهم القرية كان يتم اعتقال الرجال الذين يشتبه في علاقتهم بالمعارضة فقط. وكانت النساء والاطفال تترك وشأنها. لكن هذه المرة شيء ما ألح على أحمد للاختباء رغم انه لم يرتكب اي خطأ. ذهب الى غرفة علوية لكن أخيه بقي ودخل في جدل مع امهما. وتذكر أحمد "أخذ يقول لها (ولماذا يجب ان أهرب؟ لم أرتكب أي خطأ. من الافضل ان أبقى بالمنزل. ليس لديهم شيء ضدي)." وشملت قائمة الضحايا نساء وأطفالا رضع ومسنين وشخصيات كبيرة. ومحمد طه البالغ من العمر 90 عاما كان صانع الاحذية بالقرية على مدى عشرات السنين حتى بعد ان فقد ساقا في حادث سيارة. وهناك الشيخ عمر البياسي (62 عاما) الذي عثر أحمد على جثته بجوار زوجة الشيخ التي قتلت وابنهما حمزة طالب الطب. كان الشيخ البياسي امام القرية لمدة 30 عاما. كان مواليا للحكومة ابتعد بأرائه السياسية عن السكان المحليين قبل ان يستقيل قبل عامين. وقال أحمد "رغم انه عارض الاحتجاجات دائما الا انهم قتلوه." ومنيت عائلة البياسي بأكبر خسائر ولها 36 حالة وفاة موثقة. وعثر أحمد على جثث لافراد من العائلة في غرفة صغيرة .. أم وبناتها الثلاثة وابن صغير كان في مدرسة القرية مع أطفال أحمد. وتذكر أحمد "كانوا يتكأون على بعضهم البعض." وقبل حلول الظلام اصطدم أحمد بمشهد مروع آخر. ثلاث جثث متفحمة ترقد على بعضها البعض. وقال "كان الدخان مازال يتصاعد منهم." وتم التعرف على هوياتهم في اليوم التالي عندما جاء الهلال الاحمر مع مسؤول حكومي. كان أحد الضحايا المتفحمين هو ابراهيم الشقاري (69 عاما) الذي كان معوقا ذهنيا. وعمليات اراقة الدماء جعلت كثيرين يتساءلون ان كانت الحكومة السورية تعد لدولة علوية على الشريط الساحلي. ويقيم في الشريط الساحلي غالبية من الطائفة العلوية. وقال ناشط مناهض للحكومة العلوية عرف نفسه باسم مستعار هو صادق انه من غير المرجح ان يقيم الاسد دولة علوية مستقلة لكن يمكن اقامة منطقة علوية شبه مستقلة مثل كردستان. وحتى الان لم تكن هناك اشتباكات بين مقاتلي المعارضة وقوات الحكومة على امتداد الساحل. ولم يعتقد سكان القرى العلوية ان مقاتلي المعارضة سيتوجهون الى الجبال. وقال صادق موضحا انه عندما بدأ مقاتلو المعارضة توجيه تهديدات شفهية ضد منطقة الساحل خلال الاسابيع القليلة الماضية انطلقت التحذيرات. كانت المذابح الطائفية في البيضا ورأس النبع رسالة من حكومة الاسد للمعارضة. وقال "انها تذكر بأن الساحل خط أحمر. وانهم اذا اعتقدوا ان بامكانهم شن هجوم على الساحل فان هذا ما سيحدث للجيوب التي يسكنها سنة." وأضاف "كانت تطهيرا عرقيا والهدف هو الترويع." وقبل اعمال القتل زادت التوترات في القرى العلوية التي يخدم كثير من ابنائها في الجيش السوري وقوات الامن. وأقام العلويون الحداد على المئات من قتلاهم. واثناء السير بسيارة في بعض القرى العلوية علقت ملصقات بحجم أكبر من الحقيقي للذين سقطوا في القتال كانت مدلاة من اعمدة الانارة في الطرق الرئيسية. ووافقت القلة المتبقية من الرجال في البيضا على ان المذبحة كانت نوعا من الثمن الذي دفعته القرية لموقفها المؤيد للانتفاضة. وقال أحد الشبان "دعنا نتحدث بصراحة. نحن نؤيد الانتفاضة وهم لا يؤيدونها." ولم يتضح الى أي مدى ما حدث في البيضا ورأس النبع وصل الى الساحل. في بلدة بانياس كان الناس يعانون من توتر شديد حتى انه لم يكن بامكانهم مناقشة الموضوع. في اللاذقية وصلت الانباء خلال أحاديث خافتة فقط. وقال صادق الناشط العلوي ان الطائفة العلوية "تنفي ذلك." وقال "انهم يعتقدون انه كان قتالا ضد ارهابيين من الشيشان أو شيئا من هذا القبيل." لكن ليس هناك شكوك تذكر بشأن تفاصيل المذبحة لدى المخابرات السورية. وفي طرطوس قال رجل يعمل بمخابرات الدولة "في فرع امن الانترنت" وعضو في ميليشيا الشبيحة الموالية للحكومة ان التسلسل القيادي له يعرف بدقة ما حدث في البيضا ورأس النبع. وقال المسؤول الذي طلب عدم نشر اسمه "انهم المؤيدون للنظام هم الذين فعلوا ذلك من القرى العلوية المحيطة." وأضاف "لكنهم لا يتصرفون بناء على أوامر. قاموا بذلك من تلقاء انفسهم" وتابع "القيادة لديها كل اسماء المرتكبين لكن الان ليس الوقت المناسب لمعاقبتهم على هذه الجريمة." وعندما سئل ان كانت فكرة اقامة دولة علوية تبدو ممكنة لاجهزة المخابرات قال ان هذه الفكرة تناقش باستمرار. وقال "لكن القيادة ترفضها بالتأكيد. سيكون أسوأ سيناريو على الاطلاق دولة مستقلة من الموالين للعلويين." وأضاف "سيكون لدينا حمص ودمشق والساحل. ويمكن (للمعارضة) ان تأخذ حلب ودير الزور والقامشلي والشمال. بالتأكيد دعهم يحصلون على تلك المناطق." (إعداد رفقي فخري للنشرة العربية - تحرير أحمد صبحي خليفة)