ظل الخطاب الدينى فى الإسلام خاصة فى عصور الاستقرار والازدهار خطابا تذكيريا يتسم بإعلاء القيم الأخلاقية والعبادية والإيمانية وربطها بقضايا المجتمع وسلوكيات أفراده من خلال أسلوب يعتمد على الاستشهاد بالنص الدينى من القرآن الكريم والسنة الثابتة فعلا وقولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان هذا الخطاب الموجه لمجتمع مستقر مزدهر يتجنب دائما النصوص الغريبة والمرتبطة بأحداث تاريخية معينة والتى تتسم بالتطرف الفكرى أو خدمة أفكار مذهبية أو رؤى سياسية لجماعة أو فئة فكان مصداقا لقول الله تعالى لرسوله (( فذكر إنما أنت مذكر ، لست عليهم بمسيطر )) ، كما أنه كان يتوخى عرض القضايا الإيمانية بأسلوب يوحد ولا يفرق ، يجتذب ولا ينفر ، يبشر ولا يهدد أو يتوعد ، ويحترم حرية الإنسان فى أن يقتنع ويفعل أو يمتنع ولا يقبل عملا بقوله تعالى لرسوله (( إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء )) وقوله سبحانه (( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين !؟ )) فكان هذا الخطاب بهذه السمات خطابا قادرا على الإقناع منزها عن الغرض والهوى .. لكن بعض الطوائف والجماعات التى تنتمى إلى فكر جامد متطرف مثل "الخوارج ومذاهب غلاة الشيعة وبعض مذاهب أهل السنة المتسمة بالجمود" حاولت عبر العصور فرض فكر متطرف شديد الانغلاق ومارسوا القوة بمختلف صورها لإكراه الناس عليه وقد باءت هذه الأفكار بفشل ذريع عبر التاريخ ، ونبذتها الجماعة الإسلامية الواسعة وحاربتها كما حدث مع الخوارج وغلاة الشيعة وأخيرا الدعوة الوهابية فى القرن التاسع عشر وتبرز مثل هذه الدعوات التى تتسم بالجمود وتنتشر فى عصور التخلف الحضارى والانهيار الفكرى والثقافى وتنامى مشكلات الفقر والجهل وانهيار الإسهام الحضارى للأمة فتجد الأفكار المنغلقة والمتطرفة الببيئة الصالحة لنموها ويجد أصحاب المطامع والأهواء التربة الصالحة لغرس بذور الفكر المتطرف ويتحول الخطاب الدينى إلى خطاب زاعق متشنج مسطح الفكر معاد للعقل حيث يستغل أصحاب المطامع والطموح فى السلطة والسيطرة هذا المناخ لتحقيق سيطرتهم وتغليب فكرهم وإكراه الناس على اتباعهم فى محاولات مصممة على صنع مجتمع يضعهم على قمته فى الفكر المنغلق والسلطة المطلقة المسيطرة على الناس وقد قال المعرى فى أمثالهم منذ ألف عام
نادت على الدين فى الآفاق طائفة ياقوم ، من يشترى دينا بدينار
وقد جمعوا اليوم بتجارتهم بالدين المال والسلطة معا واجتمعت فيهم الأدوات الثلاث للطغيان احتكار الدين واحتكار المال واحتكار السلطة وهو ما يمثل خطرا داهما على مستقبل الأمة وتكريسا للجهل والانغلاق والجمود والاهتمام بالمظهر وإهمال جوهر الدين الذى يدعو إلى الصدق والأمانة والعدل والعفو والحرية فقصروا خطابهم ودعوتهم على اللحية والجلباب والحجاب والنقاب ، واتسم سلوكهم بالكذب والنفاق والحنث والفسق والظلم والانتقام والسيطرة والاستبداد ، بل تجرءوا على تكفير كل من يعارضهم أو يقاوم تسلطهم وسيطرتهم بل كفروا من يكتفى بمجرد مجادلتهم بالحجة والمنطق والحكمة والموعظة الحسنة ، وقاموا بإحياء كثير من النصوص الضعيفة لخدمة أطماعهم وليبرروا لأنفسهم حقهم فى السيطرة والطغيان وإكراه الناس على رؤيتهم ورأيهم . إن الأمم التى عانت من هؤلاء الطغاة باسم الدين عبر التاريخ عاشت فى ظلهم أسوأ عصورها وأشدها ظلاما وتخلفا كما عشناها فى أواخر العصر العثمانى وكما عاشتها أوربا فى العصور الوسطى فى ظل طغيان البابوية ، وإذا لم نتخلص من هذا الكابوس ونرجع إلى خطابنا الدينى الحضارى المستنير فى أسرع وقت فسوف نسقط فى هوة عميقة مظلمة يحتاج الخروج منها إلى الكثير من المعاناة بل أخشى أن نخرج منها بكثير من الدماء والدمار ، ونحن فى هذا التوقيت مازلنا نملك خيار الخروج الآمن من المظاهر الكاذبة إلى الجوهر الأصيل الصادق ومن الخطاب الزاعق المتشنج إلى الخطاب المستنير الحضارى ، ومن مطامع وطامعين يتاجرون بالدين إلى مؤمنين مخلصين ينصرون دين الله بالفكر المتميز والاجتهاد الحر والجهد الصادق ، إنها دعوة للنجاة ، فهل ندرك الخطر ونبعده لنستعيد دورنا الحضارى أم نستسلم للظلام ؟!