وقفتُ في (البنزينة) لأعطي سيارتي رضعتها التي لا تُشْبٍعها أبدا فهي نهمة علي الدوام وللأسف طعامها صار غاليا برغم رداءته... وبينما أستعد للتحرك إذا برجل في منتهي الشياكة والأناقة... يطلب مني بكل ذوق ولياقة أن أركن في جانب... الحقيقة أنا استجبت لطلبه... فقد كان مظهره يوحي بأنه رجل مهم... ولكن ماذا يريد مثل هذا الرجل مني؟! نزلت وانتظرت أن يخبرني عن مراده... لحظات مرت كالدهر فقد دخل إلى المكتب لبضع ثوانٍ ثم عاد وفي يده بطاقة تشبه كروت المعايدة أو دعوات الأفراح... قدمها لي وابتسم قائلا : - ممكن حضرتك تقبل دعوتنا... - أي دعوة؟! قلتها وأنا في قمة الحيرة والقلق... - فبادرني بقوله : حفلة... ولم أتركه يكمل حرفا واحدا فقد فهمت للتو من هو... وإن كانت دَخْلَتُه مبتكرة إلى حد كبير... إنه أحد أفراد شركات (التايم شير)... ولمن لا يعرف شركات (التايم شير) فباختصار... هي شركات تسويقية تعتمد علي جذب مدخرات الفئة المتوسطة من الناس والتي تحلم بأشياء لا تستطيع إمكاناتهم المحدودة تحقيقها... من خلال حفلات أسرية يوهمون عملاءهم فيها بأنهم تخطوا حاجز الفقر وأنهم صاروا بين عشية وضحاها من أصحاب الشاليهات والڤيلات في الساحل وشرم والغردقة والسخنة أو حتي في الباردة! وذلك مقابل شراء سهم أو أكثر يضمن لهم حق امتلاك أسبوع سنوي مجاني في تلك الأماكن السالفة مدى الحياة ومن الممكن أيضا تأجيره أو بيعه بسعر اليوم أو توريثه أو غير ذلك... ولكي يقوموا بإغراء الزبون يخبرونه بأن الشراء الفوري داخل الحفل يكون بنصف قيمة ما سيدفعه في أي يوم آخر... طبعا الأستاذ المحترم والذي دعت عليه أمه لم يعرف أن لي تجربة سابقة مريرة في هذا المدعو (التايم شير)... لذا لم يصدق نفسه عندما تعاملت معه بخبرة واضحة... فقلت له: الحفلة فين؟ فأعطاني العنوان بسرعة... وأعطاني معه كل التفاصيل... وقبلت الدعوة فورا بشرط أن يعطيني الجائزة الفورية التي كان قد وعدني بها إذا قبلت الدعوة وكانت عبارة عن (چركن) تنظيف سائل للسيارة... ولكنه تلجلج وتردد وأخبرني أن تلك الهدية ستكون في الحفلة... ولكني اتهمته بالمراوغة... لأنه عندما قدم لي كارت الدعوة تكلم بعبارات سريعة ظن أنني لم أفهم منها شيئا... ولكن بسابق خبرتي في هذا الأمر فهمت كل كلمة قالها وكان من ضمنها تلك الهدية الفورية السالفة... فأصررت وعلا صوتي معه بشكل واضح... فخشي أن يفقد مصداقيته أمامي وأمام كل من قذف لنا أذنه ليسترق السمع... فوافق علي مضض وكأنه هو الذي سيحاسب علي المشاريب أو سيدفع ثمنها من جيب الحاجة مامته... وعلى فكرة... كنت أعلم تماما أنهم يدربونه على سحب وجذب الزبون إلى الحفل بأقل الخسائر والتكاليف... هههه.... ولكن علي مين!!! أخذت (الچركن) الثمين ومعه فوطة برتقالية وكارت الدعوة وانصرفت... ورأيت صاحبنا من بعيد وهو ما زال يقف مذهولا... فقد ظن أنه بلغة الشارع (سيَبْلِفُني... ) فوجد العكس... إلي هنا لم تنته الحكاية... بل إنها في الحقيقة لم تبدأ بعد... ففي يوم الخميس وفي تمام الساعة التاسعة مساءً ... توجَّهتُ وأسرتي إلي عنوان شركة التايم شير ومعي كارت الدعوة الشيك جدا... وبالطبع لم أصطحب (الچركن) الهدية... فالغنيمة لا يجب أن تُظْهِرَها أمام من غنمتها منه... أفهمتُ أسرتي بأن الحفلة مجرد فقرة عابرة وليست هي الخروجة الرئيسة ... وذلك حتى لا يُصابوا بالإحباط الذي أتوقعه... وبدأت فقرات الحفل البسيطة... ثلاث فقرات... فقرة افتتاحية عبارة عن فيلم تسجيلي عن مشروعات الشركة السياحية في كل مكان... وللحق... كان فيلما جيدا يسحر النفوس ويأسر العقول بل ويفتح الجيوب المغلقة... أما الفقرة الثانية فكانت عبارة عن مشروب غازي تحية للزبائن وعملاء المستقبل... ثم بدأت الفقرة الثالثة والأساسية وكانت عبارة عن تقسيم موظفي الشركة ممن يعملون في قسم التسويق العقاري علي الحضور... بغرض إقناع الضيف بأن يكون عميلا لدى الشركة ويقوم بشراء سهم أو أكثر... وكان من نصيبي موظف لبق جدا ويتكلم مائة كلمة في الدقيقة... ولكنه بالطبع لم يكن يعلم بأن يومه هذا يوم أيْوَم لم تطلع له شمس... وجدته يمسك بالورقة والقلم وظل يقنعني بالشراء وهو للأسف لا يعلم أنني اتخذت قرارا مسبقا بأن السماء إذا انطبقت علي الأرض فلن أشتري... وعبثا حاول... ولكن هيهات هيهات!!! أُذُن من طين وأخري من عجين... وأثناء ذلك كنا نسمع بين الحينة والأخرى صوت تصفيق حار ينبعث من المناضد المجاورة إيذانا بموافقة أحد العملاء على الشراء... وصاحبي ما زال يحاول معي لعل وعسى! مع أنه لو قرأ الغيب لَعِلَم وتَيقَّن أنه لا فائدة مما يعمل ولا فائدة مني أيضا! ولكنه في الأخير مغلوب على أمره... فمن بعيييييد يرمقه المدير أو صاحب الشركة بنظرات حادة مُتَوَعِّدة... فلاحظتُ ذلك فازداد عنادي خاصة أن هذا المدير يبدو عليه الغطرسة والتكبر... وقمت بالانحناء على أذن الموظف الغلبان وأخبرته ألا يُتْعِب نفسه... وأقسمتُ له بأنه لو أمسك سلكا كهربائيا عاريا ما اشتريت... فلست من أنصار شراء سمك في ماء أو طير في الهواء... وأن ما جاء بي إلى هنا سوى التجربة والفضول ومقابلة أنماط جديدة وتغيير جو ليس إلا... ولكن لا ضرر ولا ضرار... عندما شعرت بأن هذا الموظف المغلوب على أمره يكاد يفقد وظيفته لفشله في إقناعي... طلبت منه إحضار المدير بنفسه... ولم يكذب خبرا فأسرع وعاد به وكأنه يريد أن يهرب من النار ولو إلي النار ... فنظر سيادته إليَّ بتفحص قبل أن يقول : خيرا يا فندم... ولم يتوقع سيادته ردي الفوري السريع : أريد هديتي لكي أغادر... أم أنكم تراجعتم في إعطاء العملاء أمثالي الهدية التي أعلنتم عنها في كارت الدعوة لأني لم أشترِ... وقبل أن يجيب بادرته: وعلي فكرة أنا لا أريد منكم شيئا... ولكني فقط أحْضَرْتُك لكي أبرئ ساحة الموظف الذي فاوضني... فوالله لو أحضر لي نجما من السماء ما اشتريت... مسألة مبدأ ليس إلا... وحظه العثر فقط هو الذي أوقعه في طريقي... وللحقيقة بادرني هو برد غير متوقع على الإطلاق: تسمح سيادتك بمحاولة أخيرة : وبرغم عدم اقتناعي بجدوى أي محاولة إلا أنني وافقت على مَضَض... و المفاجأة الحقيقية هي أنه أحضر لي هذه المرة موظفة في غاية الجمال والرقة تنبعث منها رائحة الحياة الساحرة... فجلستْ بأوراقها بجواري وزوجتي تكاد تقتلني... فانفجرتُ ضاحكا... فبدأت الفتاة تتلعثم قبل أن تبدأ وهي تنظر خلفها لترى ردة فعل مديرها الذي راهن عليها... فقالت في همس وهي تَتَصنَّع الثقة بنفسها : ماذا يُضْحِكُكَ يا سيدي؟! أجبتها : كان غيرك أشطر... لا أريد تضييع وقتك ووقتي... ربما العيب ليس فيكِ... بل فيَّ أنا... ربما... لكن الأكيد الأكيد أنك ستفشلين حتما... نظرت إليّ وهي تداعب أوراقها باضطراب وأخذت تشرح لي بكل ما أُوتِيَتْ من دلال وسحر... وكأنها تسجيل لا يتوقف... فتركتها تكمل لمدة عشر دقائق... وبعدها انتظرتْ موافقتي ولكني أشرتُ إليها بالرفض... بل ولقنتها درسا لن تنساه طوال حياتها... قلت لها بالحرف الواحد: أنا أرفص تماما أن تستغلي جمالك في الترويج لسلع وهمية أو شبه وهمية... وأرفض لك أن تكوني أداة في يد هذا المدير المتغطرس الذي ظن بخياله المريض أن سحرك وجمالك هما أداة إغرائي واستمالتي... ولم يدرك أن هناك بشرا بحق وليسوا حيوانات تستعبدهم الشهوات! فما كان منها إلا أن قامت والدموع تملأ عينيها وأسمى آيات الفشل تُخَيِّم عليها... وأنا بدوري وَقَفْتُ بلا رجعة وانصرفتُ غير آسف... وعلى باب الخروج فوجئت بالمدير يودعني بنفسه قائلا: أنا معجب بتصميمك جدا... فقَلَّما نجد عملاءً لا تُؤثِّر فيهم محاولات موظفينا المحترفين... وأردف : وأرجو منك أن تقبل هديتنا المتواضعة تلك... وأعطاني ظرفا مغلقا بالطبع لم أفتحه أمامه ولا حتي سألته عن محتواه... وبعد خروجنا تماما من المكان قتلني الفضول... فأردت معرفة محتوى الظرف... ففتحته وكانت المفاجأة... حقا هدية ثمينة للغاية لكنها بلا قيمة على الإطلاق بالنسبة لي... على الأقل! ________________________ #بسن_القلم