تسَمَّر كبير تجار القرية في مكانه وشعر بدوار شديد... وسقط مغشيا عليه... وأفاق علي صوت حشد كبير يملئون حجرة نومه... وعلم أنه دخل في غيبوبة لمدة أسبوع كامل والغريب أن جميع الأطباء لا يعرفون سر تلك الغيبوبة... حاول أن يقوم من سريره فلم يستطع فجسده واهن للغاية... وما جعله يشعر بالوهن أكثر هو ذلك الكم الهائل من الزوار والذين لا يكفون عن الثرثرة والبغبغة... فقد كان مشهورا ومن عِلْيَة القوم وأحبابه كُثْر... فاستسلم في الأخير لرقدته لعله بالغذاء والدواء يسترد عافيته... ورويدا رويدا بدأ في التعافي وتجهَّز ليري الشارع لأول مرة منذ شهر تقريبا... فكان خروجه بعد صلاة العشاء وبينما هو بالباب إذ رأي شيئا هالَه وأفزعه وأصاب نفسه بالانقباض... وجد نعشا مفتوحا وكأن من وضعه ينتظر خروج الجثة لتُوَارَي مثواها الأخير... وقد يكون الأمر طبيعيا في وجود حالة وفاة بالبيت... ولكن الشيء العجيب أن جميع من بالبيت بصحة جيدة... إلا هو بالتأكيد! ولكنه تعافى وأصبحت صحته على ما يرام... ثم من جاء بهذا النعش؟! وبينما هو غارق في التفكير إذ وجد شبحا يلوح من بعيد يظهر فجأة ثم يختفي... ففرك عينيه عله يَسْتَبينُه... وعلي ضي القمر الشاحب استطاع رؤيته... نعم هو بشحمه ولحمه... لم يكن شبحا من العالم الآخر بل كان شخصا يعتبره أهل القرية من الناس البَرَكَة... كما يقولون! إنه مبروك أو هكذا أسموه... فقد دخل جميع بيوت القرية تقريبا... والناس يعاملونه بلطف ولين... بل يبالغ البعض في إكرامه إما طمعا في كراماته أو خوفا من صِلاته بالعالم الآخر... العالم السفلي... أو عالم الچاااااان!!! تراه يلف ويدور ويجوب القرية من أقصاها إلي أقصاها ولا تظهر عليه أمارات التعب... وفي آخر الليل يذهب إلي المقابر لينام!!! وكان مما يثير العجب أنه قد يقابل شخصا في مكان ما وعندما يصل هذا الشخص إلي بيته يجده أمام البيت مُرَحِّبا... مع العلم أنه يسير حافيا علي قدميه والشخص الذي قابله راكبا دراجته البخارية! فكيف وصل قبله؟!!! وبالطبع كان معظم أهل القرية من الفلاحين والأميين وقَلَّما تجد وسطهم بعض المثقفين... لذا كان استعدادهم لقبول الخرافات والأساطير كبيرا... ولكن ما الذي جاء به هنا... وهل له علاقة بذلك النعش؟! كلمات نطق بها كبير التجار... ثم رجع سريعا بذاكرته إلي شهر مضي... وعندما وصل إلي نقطة معينة وبالتحديد عندما رأي ما أفقده الوعي... وكأن رؤية مبروك اقترنت في ذهنه بشيء رهيب!!! فصرخ بأعلي صوته صرخة سمعها كل من بالقرية... وبعدها وقع علي الأرض... لكن هذه المرة لم يفقد وعيه... بل فقد الحياة! وكان تشخيص الوفاة الروتيني بالكشف الظاهري : هبوط حاد في الدورة الدموية مصحوبا بسكتة قلبية مفاجئة... وعلي الرغم من أن تشخيص الوفاة كان اعتياديا وليس فيه أثر لشيء يثير الشكوك حول سبب الوفاة إلا أن ملابساتها عجيبة حقا... وبدأت موجة من التساؤلات والهمهمات كان من أهمها: من أحضر النعش المشؤوم أمام باب البيت؟! وهل كان يعرف أن ثَمَّت حالة وفاة؟! ولكن... أستغفر الله العظيم... فلا يعلم الآجال إلا ربها ومليكها... إذن من هو... مضت أسابيع علي تلك الحادثة ونسي الناس الأمر... ولعل أمر النسيان في هذا الزمن كان ميسورا فلم تكن وسائل الفتْي والهري الاجتماعي قد ظهرت بعد... ظل شاكر منهمكا في العناية بأرضه وبجواره والده العجوز يعمل علي قدر طاقته... ولم يكن من السهل علي شاكر أن يجعل والده يستريح من تعب و عناء الحقل... فقد أقسم الوالد بأغلظ الأيمان ألا يتذوق طعم الراحة إلا وهو مُمَدَّد علي سرير الموت... ومرت ساعات من العمل الشاق حتي حان وقت الغداء... وهاهي زوجة شاكر تأتي حاملة صرة الطعام البسيط... من الجبن القديم المعتق والطماطم وبعض الجرجير وبصلتين كبيرتين وملفوف كل ذلك في كمية من الخبز البلدي الطري... وتناول الجميع طعامهم في نهم وسعادة... وبعد الانتهاء منه عادت الزوجة حاملة معها بقايا الطعام وبعض خيرات الأرض... وجلس شاكر وأبوه يحتسيان الشاي تحت ظل الشجرة... ومن جراء مشقة العمل استسلما لسِنَة من النوم... ولم يشعر الوالد بنعومة ذلك الجسد الذي حَطَّ علي رقبته وفي لحظات صبَّ سائله في عنقه وانطلق موليا الفرار... و استيقظ شاكر علي صوت حشرجة مكتومة تخرج من حنجرة أبيه... ولكن كان القدر أسرع والجاني قد هرب... وقبل أن يفيق شاكر من هول الصدمة... إذا بزوجته قد عادت للحقل ولكن هذه المرَّة يظهر علي ملامح وجهها الاضطراب والخوف... وارتمت علي الأرض من شدة الإعياء وقبل أن تنطق ببنت شفة وجدت والد زوجها وقد أسلم روحه لبارئها وشاكر بجواره يبكي بحرقة... وصار كل منهما في حيرة وارتباك ممتزجتين بالحزن والألم ... لكن الحزن معقول ومفهوم... حزن فراق الكبير... لكن الحيرة عند كل منهما لها سبب يختلف عن الآخر... فالزوجة في حيرة من سبب وفاة والد زوجها... وشاكر في حيرة من عودة زوجته مرة أخرى وعلي تلك الحالة التي يُرْثَى لها... واستكانت الزوجة قليلا عندما علمت بأمر الحية الرقطاء التي أتت علي حياة والد شاكر... وبمجرد أن تذكرت سبب عودتها للحقل عندما استحثها شاكر حتي ارتجف جسدها بقوة واصتكت أسنانها العلوية بالسفلية بقوة وسرعة... وعبثا حاولت أن تتمالك أعصابها... فضربها شاكر علي خدها فاستفاقت من هول المفاجأة وقوة اللطمة... وأخبرته أنها بمجرد عودتها للمنزل وجدت شيئا مخيفا أمام الباب... وجدت نعشا مفتوحا وبجواره... مبروك!!! حادثتان في أقل من شهرين... وهناك رابط مشترك بينهما... إنه - مبروك - وهو يقف بجوار النعش المفتوح وبعدها بلحظات تحدث الوفاة... بات عند الناس يقين يدعمه ويزكيه الجهل والإيمان بالخرافات والشعوذة... أن مبروك من أهل الحظوة والخطوة ومكشوف عنه الحجاب... فزاد تَعَلُّق الناس به وأغدقوا له العطايا وربطوا كل حادث عارض بحركة أو فعل من أفعال مبروك!!! عاش مبروك في ظل هذا الدلال لا تظهر عليه علامات النعمة... ولا يعرف أحد أين يضع العطايا ومتي سينعم بها؟! فعظَّمَتْ حالة الزهد هذه صورته في عيون الناس... وفجأة !!! استيقظت القرية ذات صباح علي نعش مفتوح في وسط الطريق ولكن لم يقف بجواره مبروك هذه المرة ... بل كان راقدا تحته!!! نعم... كان مبروك هذه المرة جثة هامدة ولم يجرؤ أحدهم أن يعبث بالجثة أو حتي يلمسها... و استمعوا لنصيحة صدرت من رجل غريب قدَّم نفسه لهم علي أنه خادم أمين لمبروك ومن مريديه... فقد أشار عليهم أن يقيموا لمبروك ضريحا ومقاما ومولدا كبيرا يأتيه الناس من كل حدب وصوب لينالوا البركة!!! ففعلوا!!! وبدون أدني تفكير!!! الوحيد الذي لم يقتنع بهذا الهراء هو شاكر فمقدار التعليم الذي حصل عليه كان كافيا لكي يجعل عقله لا يقتنع بتلك الخرافات... ولكن كيف السبيل وعقول الناس عليها تِرْباس... وأخيرا وبعد تفكير عميق وصل لبداية الخيط... شيئ لم يفكر فيه أحد ولم ينشغل به أي شخص... كان الحل هو الإجابة عن هذا السؤال : ما الذي رآه كبير التجار يوم إغمائه الأول!!! وعندما تذكَّره للمرة الثانية أصيب بسكتة قلبية ومات علي إثرها؟! الإجابة عن هذا السؤال... الوحيد القادر عليها هو كبير التجار شخصيا... ولكنه مات!!! ظل عقل شاكر الباطن يقنعه بأنه لا جدوي وأن عليه أن يعيش كما يعيش الناس وعليه أن يدع المُلْك للمالك... وكاد أن يقتنع... لكنه يوقن بأن اقتناعه بذلك يُعَد جريمة... في حقه وحق أولاده بل في حق قريته كلها! فقرر أن يحوم حول مقام سيدي مبروك لعل وعسى... ولكنه لم يجد شيئا جديدا... فالأمور تسير برتابة وانتظام... وفي الوقت الذي قرر فيه الانسحاب سمع صوتا يأتي من داخل مقصورة المقام... صوت يشبه صوت مبروك يتحدث مع أحدهم!!! أزاح شاكر بعضا من صماخ أذنه لعله يسمع بوضوح أكثر... نعم إنه صوت مبروك ولكن كيف؟! وهنا قرر أن يبيت ليلته داخل الضريح... بات ليلة وجد فيها ضالته ومفتاح قضيته وإجابة عن سؤاله الذي طالما شغل باله... فتنهد بارتياح وعزم في الصباح أن يخرج إلي البراح... ليخبر الناس بالحقيقة... ولكنه وجد الضريح مغلقا من الخارج وكأن من فعل ذلك يريد الخلاص منه... وقبل أن يفكر... وجد شبحا مخيفا تخرج النار من عينيه وصوته كصوت الرعد في هزيمه... أو كصوت الأسد في عرينه... فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم وتلا آية الكرسي وجميع ما يحفظ من الآيات المنجيات... لكن الشبح ما زال موجودا... وهنا تنهد شاكر بارتياح فقد أيقن أن الشبح لم يكن عفريتا... بل مجرد دمية لا يخاف منها إلا قليل الإيمان... دمية ظهرت لكبير التجار وعقله منها طار... لكن شاكر قاتلها بقوة إيمانه بربه فهزمها وأخرج من داخلها مبروكا... وعندما عاد بها إلى أهل القرية ومعها المدعو مبروك... الذي لم يعد مبروكا بل صار صنيعه محروقا... وحيلة ادعاء الموت انكشفت... خرجت الخرافة من عقول الناس ولو لحين... ومن بعيد وجد رجلا يعرفه جيدا يصيح في الناس مستنكرا وكأنه يريد أن تظل الأكذوبة مستمرة وَوَجَّه كلامه لشاكر وهو يكاد أن يفترسه : هناك شيء لم نعرف له تفسيرا بعد... كيف عرف مبروك بوفاة كبير التجار ووالدك يا شاكر وأحضر لهما النعش مقدما؟! فأُسْقِطَ في يدي شاكر ولم يجد وقتها تفسيرا منطقيا... لكنه نظر بتحدي إلى وجه الرجل وعقد يديه علي صدره وقال بقوة وثبات: كذب المنجمون ولو صدفوا. ________________________ *وبعد فتح التحقيقات بناءً علي طلب من شاكر لوجود شبهة جنائية ... اتضح في حادثة موت كبير التجار أن سبب الوفاة هي سم طويل المفعول ويوم الحادث دُسَّ له شرابا للهلوسة كان له تأثير في تنشيط السم والقضاء عليه... أما والد شاكر فقد وُضِعَت له الحيَّة فوق الشجرة وكان المقصود بها شاكر... وقد اعترف المدعو مبروك بجريمته... وحُكم عليه بالإعدام شنقا... أما الرجل الغامض فقد هرب متوعدا شاكر بالانتقام منه... وأن الجولات بينهما لم تنته بعد... فقد راهن عليه الشيطان ولن ييأس! وبذلك تمَّ تفسير وضع النعشين أمام البيت... ومن بعيد صدح صوت عذب بقوله تعالي: 'وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ۗ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)' [سورة آل عمران] وقوله تعالى: 'وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)' [سورة الأعراف] ________________________ #بسن_القلم يسترد,