أفاق خالد من غيبوبته ونظر حوله فلم يعرف أين هو ولا مَن جاء به إلي هذا المكان ثم بدأ يتحسّس جميع أنحاء جسده فهالهُ ما رأي جرحاً عميقًا في رأسه بجانب كدمات وسجحات كثيرة في جسمه وأطرافه فأراد أن يغادر سريره فلم يستطع فلقد كان مربوطا من وسطه في السرير – وبينما هو غارقا في دهشته وعقله يذهب ويجئ إذا بصوت أجش يقطع تفكيره قائلاً: - معاك الدكتور محمد من قسم الحوادث – ثم أردف قائلا: -لا إحنا النهارده أحسن بكثير سبحان من يحي العظام وهي رميم - هه أنت بتكلمني طبعا ياأستاذ - هوّ من الحق - أنت اسمك إيه أصل إحنا ملقناش معاك أي شيء يثبت هويتك - اسمي خالد .. هو أنا فين ؟ - في المستشفي - طب أنا ازاي أتيت إلي هنا ؟ - في الحقيقة يا أستاذ خالد أنت وصلت إلي هنا عن طريق بعض أولاد الخير اللي وجدوك مَرْمِي في جانب الطريق الزراعي بعد ما صدمتك سيارة مسرعة ثم فرت .. ربنا ينتقم منه ابن الحرام -وبينما كان الطبيب يحكي لخالد ما حدث له إذا بخالد يسترجع ما حدث علي طريقة الفلاش باك : لقد خرج وهو سعيد ومُنْتشي بعد حواره مع الحاج برعي والذي وعده فيه بأن يساعده في شراء قطعة أرض وسيقف بجواره حتي يقوم ببنائها ومن شدة فرحته نسي أن يتناول دواءه لمدة يومين وسافر الي بلدته يبشّر أهله بهذا الخبر وبينما هو في الطريق ينتظر وصول السيارة الميكروباص التي ستُقلّه إلي قريته إذا بحالة الصرع تنتابه فيقع علي الأرض ويبدأ في الرفس والارتعاش وفي تلك اللحظة جاءت حافلة مسرعة فصدمته صدمة شديدة في رأسه وولّت هاربة وها هو يصل عن طريق أولاد الحلال إلي المستشفي ومن الظاهر أن أحدهم لم يكن ابن حلال (مِصَفّي) لأنه قد أخذ منه كل ما في جيوبه من محفظة ونقود وبطاقات هوية وخلافه -الحقيقة لقد كانت صدمة قوية لدرجة أن جميع أطباء الطوارئ راهنوا علي وفاته ولكن الأعمار بيد الله وبينما كان خالد شارداً يسترجع ماحدث له يوم الاصطدام إذا به يرجع سنيناً طوالاً إلي الوراء حيث كان مازال في الصف السادس الابتدائي وبالتحديد يوم أن أصابته أول نوبة صرع في حياته وقتها لم يكن يعرف هو ولا أهله أنها نوبة صرع بل ظنّها الجميع مسّ شيطاني - ولِمَ لا- والجهل وقتها بهذا المرض كان موجوداً علاوةً علي أنّ خالداً كان دائم الخلوة بنفسه والرجوع متأخراً من نادي القرية والذي كان بجوار المقابر وما أدراك ما المقابر!!!! خاصة في القرية ولقد ترتّب علي هذا الاعتقاد أنهم ذهبوا به إلي شيوخ ودجالين ومشعوذين لكي يقوموا بإخراج هذا المس الشيطاني من جسده وبسبب ذلك تعرّضت شخصيته للكثير من الاضطرابات النفسية التي كانت لها تأثير مباشر في حياته منذ الصغر وإلي الآن ومرت الأيام والسنون وتوقّف المس الشيطاني ولم تعد تلك النوبات تَنْتابه فظن الجميع أن عمل الشيوخ قد أفلح ولم يكن يعرفون أن ماأصابه لم يكن مسّاً شيطانياً بل كان مرضاً عصبياً وهو الصرع والذي ظل كامناً طوال تلك المدة ولكنه عاد وهاجمه بضراوة في أواخر الثانوية وبداية المرحلة الجامعية وازدادت تلك النوبات والتي لم يفلح معها أيّ علاج والحقيقة أن مرضه بالصرع لم يكن يزعجه في حد ذاته ولكن ماترتّب عليه من انعكاسات نفسيه وتَغَيّر في أسلوب معاملة من حوله له سواء بالشفقة من بعضهم أو بالخوف منه من آخرين خاصة وقت مجئ نوبة الصرع ولكن أشدّ ماكان يؤلمه هو طريقة معاملة أخيه الكبير له فلقد كان يعامله بقسوة شديدة خاصة أنه آخر العنقود وكان يخشي عليه من تدليل والدته له واهتمامها الخاص به نظراً لمرضه وكان أخوه الأكبر صابر يري أن تلك المعاملة لأخيه من أمه هي التي ستجعله يَفْسد ولا يكون رجلًا بمعني الكلمة لذا كان قاسياً في طريقة تربيته له خاصة وأنه يمثّل له الأب بعد وفاة الوالد وهو صغير وبجانب كونه أخاه (الكبير) كان يري أن تلك القسوة هي من باب قول الشاعر: وقسا ليزدجروا ومن يك حازماً ** فلْيَقْسُ أحيانا على من يرحم – فهو يراها أسلوباً للتربية السليمة وتصحيحا لما تقوم به الأم والحقيقة التي كان خالد دائم الهروب منها أن والدته كانت كالدّبّة التي قتلت ابنها لكي تَهُشّ عنه الذبابة فقذفته بصخرة - و أن أخاه صابر كان حنوناً وأباً بديلاً رائعاً فهو لم يتأخّر يوماً عن علاجه وكِسْوته بأفخر الملابس وكان يقطع من قوت أولاده ليطعمه فضلاً علي ذلك كان يعتبره ابنه الأكبر الذي لم ينجبه ولكنّ خالداً نسي ذلك كله أو تناساه لكي يُرَسّخ في ذهنه نظرية المؤامرة ويستدر عطف أمه عليه وعطف أخيه صفوت وأخته صفاء ويسبح بعقله الباطن في مَسْبح (افعل ما تشاء فلا حرج عليك فأنت مريض) فاسْتلذّ العيش في دور المجني عليه والضحيّة فاستمتع بحياة اللهو وعدم المسئولية منذ الصغر إلي الكبر ولم يرض أن يعيش في جلباب أخيه صابر فهو الوحيد الذي كان يُخْرجه من حياة المَلْهاة إلي عالم المسئولية حتي يكون رجلاً ويستطيع أن يفتح بيتاً في المستقبل ولكن -هيهات هيهات- فهو للأ سف عاش طفلاً في طفولته! وطفلاً في صِبَاه ! وهاهو يعيش طفلاً في شبابه ! - وها هي الفرصة تواتيه فرصة الانسلاخ من سطوة صابر إلي الحرية إلي حياة يُسَيّرُها كيفما شاء وأينما يريد فقد تخرّج من كليته وجاءه التكليف ليعمل مدرسا بإحدي المدارس الحكومية وكانت رغبته أن يعمل بمدرسة في أبعد مكان– تخيلوا- اختار العمل في أسوان وبالفعل جاءه جواب التكليف بالعمل فيها وقدكان يدرك أنّ الوزارة ستُرحّب بذلك الاختيار تماماً فالجميع يرغبون في العمل داخل محافظاتهم بل إنْ شاءوا داخل بيوتهم!!! واستعدّ للسفر ولأول مرة يغيب عن حضن والدته ويعتمد علي نفسه كلياًّ و هو برغم حزنه علي فِراق والدته إلاّ أنّ رغبته في الخروج من شَرْنقة صابر كانت ملحة ليُثْبِت لنفسه أولاً ولصابر ثانياً أنه أصبح رجلاً يمكن الاعتماد عليه وجاء يوم السفر وركب القطار وأخذ يتطلّع الي المساحات الخضراء الشاسعة ويري الطير في السماء ولسان حاله يقول هاأنذا أيها الطير الطليق سأكون مثلك أفعل مايحلو لي.... وبعدها راح في سُبَاتٍ عميق*عميق*عميق* (ونكمل فيما بعد ما دام في العمر بقية)