استيقظت علي صوت فظيع أصابني بالهلع لدرجة أنني لم أقم من النوم بل قفزت من فوق السرير ولكني سرعان ما تمالكت نفسي فقد كان زميلي سيد المنوفي وهو يمسك ببوق مصنوع من الكرتون يشبه بَكَرَة الخيط الضخمة التي كنا نلعب بها لعبة ( الأيودا ) ونحن صغار، فقد كان يستعمله في إصدار صوت عالي في أذن كل واحد منا رغبة فى إيقاظه ( هبل في الجبل ).... وسرعان ما لبيت نداء الطبيعة وذهبت إلى الحمام ولكنني وجدت عليه طابور... وعرفت فيما بعد أن الأسبقية لمن يستيقظ أولا... هذا وقد قام زميلي جابر السوهاجى باعداد الفطور على حسب الجدول المعد سلفا... تناول الجميع فطوره سريعا وكأن القطار يجري وراءه أما أنا فلم أتناول لقمة واحدة لسببين: لأنني لم أتعود علي الفطور بعد القيام من النوم مباشرة بالإضافة إلى أنني بمجرد أن سميت الله لم أجد ما أتناوله فقد مسح الجميع الأطباق وهنا تذكرت مقولة جدتي رحمها الله لي عندما لم أكن أسرع في تناول الطعام : ( هيه هتاكل بسرعة ولا أعملك عصيدة زي البدو وألسوع بها لسانك ) فكنت آكل بسرعة خوفا من العقاب الأليم ،وكانت تقول لي ( كل أكل الجمال وقم قبل الرجال ) وذهبت إلى المدرسة خاوي المعدة ولكني متشوق لمباشرة عملي داعيا الله أن يوفقني ****************************** كان الاستقبال حافلا سواءا من الزملاء المصريين أو من السوريين أو من السعوديين أو من أي جنسية أخري وقابلت المدير وكان رجلا مهذبا يظهر عليه السلام النفسي أما الوكيل فكان أحدهما سعودي وهو رجل تظهر عليه علامات النعمة مما أعطته وقارا وعفة نفس وكان ودودا لأبعد مدي ،أما الوكيل المصري فيا سبحانك يا ربي ومن أول وهلة تراه شخصا كريها منفرا شكلا وروحا حتي لكأنك تشعر بالانقباض والوحشة بمجرد أن تحادثه ولم يكن اسما علي مسمي علي الاطلاق فهو عادل وستثبت لكم الأيام كم كان ظالما، وبمجرد انتهاء مراسم الترحيب والتعارف والذي منه، أخذت جولة سريعة في المدرسة فوجدتها مدرسة حديثة بحق ولكني لاحظت شيئا أثار فضولي وتعجبي في الوقت ذاته وهو وجود شبكة حديدية تفصل بين الجناح الخاص بالمرحلة الثانوية والجناح الخاص بالمرحلة الإعدادية وشبكة أخري تفصل بين الجناح الإعدادي والابتدائي ،وعند سألت أحد الزملاء ابتسم لي في خبث وقال لي: بكره تعرف كل حاجة في وقتها! ولم تزدني تلك الإجابة المفتوحة العائمة إلا فضولا،وزي ما بيقولوا يا خبر اليوم بفلوس بكرة يبقي ببلاش فانتظرت لبكرة خاصة أن الفلوس التي معي بعافية شوية! ****************************** من مصر حضرتك؟ أيوه مين حضرتك؟ أنا فهد زميلك وبعطي لغة عربية ومن هنا من الطائف ، ويارب تعمَّر معنا وما تتركنا متل الزميل اللي جبلك! وهو ترك المدرسة ليه؟ ترك المدرسة ليش ترك المدرسة ليش يا فهد والله يا خوي الموضوع دا شرحه يطول وأنا الحين مشغول..أجولك اسأل أستاذ عادل وكيل المدرسة وهو ما يتأخر عليك ... سلام تركني فهد وأنا عامل زي الأرنب والله ما حصلت فار حتي ، بصراحة موضوع ماهر دا عاملي بتنجان في نفوخي .... ومشيت وأنا تايه وفجأة .... فاكرني يا أستاذ؟ مين ..... الدلفة؟! ازيك .... طبعا فاكرك مش أنت اللي وصلتني للسكن ؟ تمام كده يا أستاذ...أنت هتجيلنا الفصل امتي؟ بكرة أصل النهاردة يوم تعارف وكده كما تريد أستاذ .... تبّي شي ؟ لا لا شكرا شكرا يا.... من الحق هو اسمك إيه؟ زهراني أستاذ عاشت الأسامي يا زهراني ****************************** كانت المسافة بين المدرسة والسكن أقل من نصف كيلو لذا كنا نقطعها علي الأقدام وكان علينا لزاما أن نعبر طريقا متعدد الحارات مليئا بالسيارات المسرعة وهو يشبه تماما طريق صلاح سالم أو الأتوستراد عندنا في القاهرة ، وفي الطريق توجد محلات الخضار والفواكه بجانب المولات الضخمة الفخمة كالعبيكان وبوارث وغيرها ويا سلام علي شراء الفراخ أقصد الفروج من عند فقيه ، وكان أحدنا علي حسب الجدول الموضوع سلفا هو مسئول الشراء والتبضع بالميزانية التي بين يديه، فسبقناه وأخذ هو يقوم بالتسوق ،وكان في انتظاره مسئول الطهي بينما يلجأ الباقون إلى النوم بعد إرهاق يوم دراسي،ولا نستيقظ إلا بعد أن يفرغ زميلنا من إعداد الطعام،فنبدأ في تناوله ....وكان أجمل شيئ هو أننا كنا نحافظ على الصلاة في جماعة .... نذهب سويا ونعود سويا ..... وعندما يهبط الظلام يجهز كل فرد كراسة تحضيره ويتجهز ليوم دراسي جديد ....وهكذا مرت الأيام في السكن علي هذا النظام ..... ولكن يأبي القدر إلا وأن يجهز لي ما يعكر صفو تلك الحياة الرتيبة ****************************** في منتصف الليل وأثناء دخولي الحمام سمعت صوتا هامسا يكاد يصل إلى مسامعي ، هذا الصوت كان صادرا من حجرة كنت دائما أراها مغلقة ليس بقفل ولكن بأكرة الباب العادية وسبحان الله لم أفكر ولو لمرة أن أدخلها أو حتى أسأل أحدا عليها ، فتعمدت هذه المرة أن أتنصت علي هذا الصوت ولكن للحقيقة لم أتبين صاحبه بالتحديد فازداد فضولي فاقتربت أكثر من الباب وطرقت عليه بعض الطرقات الخفيفة ولكن لم تأتني إجابة .... وفجأة ..... جاءني صوت أجش أعرفه ولكن هذه المرة من خلفي : ماذا تفعل عندك؟!!! لم يكن هذا سؤالا بقدر ما رأيته تأنيبا علي جرم فظيع قد ارتكبته ولكني حاولت أن أمسك أعصابي وواجهت معاتبي فوجدته زميلي خميس ذي الوجه الغير مريح والابتسامة الغامضة الخبيثة فبادرته قائلا: لا لا ولا حاجة بس أصل أنا سسسمعت صصصوت جوووووة الحجرة دي فحاولت أن أعرف ..... لكنه لم يدعني أكمل كلامي وقاطعني قائلا: ادخل نام يا ابني وبلاش متاعب العملية مش ناقصاك أنت كمان... وتركني وانصرف ليكمل نومه .... وأنا بدوري آثرت السلامة فذهبت مسرعا وأنا أتلفت خلفي وكأن الشيطان يجري ورائي وارتميت في الأخير علي سريري ذي البقع التي لازلت لا أجد سببا لوجودها ورحت في سبات عميق ليس من التعب بل من شدة الخوف...... وان شئت قلت من شدة الرعب.....