الحملقة- وبإعجاب- كانت كل ما استطعت أن أقوم به صبيحة ذلك اليوم وأنا أقف أنتظر (الأتوبيس المكيف) ليقلني إلى كليتي- التي تقع في صحاري حلوان- فقد كان الفتى وسيماً بقدر يجعل مؤشر البوصلة ينحرف عن اتجاه الشمال وينظر إليه.. لم يكن الشاب وسيماً وحسب، بل كان جماله ملائكياً، إنه.. المادة الخام للجمال.. وتلفت من حولي لأجد كل رواد المحطة قد أعملوا نواظرهم فيه يتمتعون بوسامته و يحسدونه - في ذات الوقت- على جماله، وسلوني أنا عن تلك النظرة التي تشى عن افتتان وانبهار.. حتى تلك الآنسة الوقور ذات الملابس المحتشمة والحجاب المنسدل لم يمنعها من التمتع بالنظر لذلك الجمال الأخاذ.. ولم أمنع نفسي من التلذذ بمراقبة نظرات الإعجاب في عينيها.. وأخذت أراقبهما وفي الواقع أنا أعذرها كل العذر، فأنا - كشاب- قد فتنتني ملامحه وقسماته التي كانت كما البدر، وحتى جسده فقد كان رياضياً ممشوقاً.. فما بالكم بالفتاة.. وابتسمت الفتاة له وفي عينيها نظرة هيام.. فابتسم هو بدوره ..ومن ثم وقفت الفتاة تتفرسه من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه .. فبعد أن مرت على شعره الناعم الفاحم الأسود كما الليل اتجهت إلى عينيه العسليتين اللتين في طرفيهما حور يأسر، ثم دققت النظر في ملامحه الدقيقة.. ومن ثم إلى بقية جسده الرياضي وملابسة المنسقة كملابس أبناء الأمراء.. لكني صدمت بنظرة الذعر في عيني الفتاة وهي فاغرة فاها في دهشة كأنها مصدومة.. ومن فوري انتقلت بعيني من وجه الفتاة المصدومة إلى حيث كانت تنظر.. لأجد هذا المشهد المريع.. كيف لم أنتبه من قبل لذلك..؟ كيف لم أر ذلك العكاز وتلك الأقدام الضامرة؟!؟ أسرعت بعيني لأرصد انطباعات الفتاة، وتوقعت أن أجد تلك النظرة المصدومة مازالت عالقة علي محياها، ولكني وجدت ما هو أسوأ، فقد رسمت على وجهها علامات التقزز.. رأيتها وقد قطبت جنبيها ورفعت حاجبا وخفضت الآخر تقززاً، وصعرت خدها ، ثم رفعت ركن فمها الأيسر في إشارة إلى الاستياء.. كانت نظرة ناطقة بجميع اللغات نصها يقول: لست أنت من تأسرني. ونظرت للشاب لعلي أرى انطباع اليأس على وجهه..لكنه بكل بساطة نظر لقدمه الضامرة ثم رفع عينيه للفتاة وابتسم ..وجاء (الأتوبيس) فصعدت الفتاة، ولم يصعد الفتى وفي اليوم التالي لهذا الموقف.. وقفت أنا ونفس الوجوه بما فيهم الشاب والفتاة التي تظاهرت بالانشغال عن النظر للشاب بقراءة إحدى الصحف ..وفكرت أنا في الحالة النفسية لذلك الشاب بعد الصفعة التي تلقاها البارحة من الفتاة.. ثم فكرت في الفتاة التي لم تراع شعوره وجرحته بسبب ذنب لم يقترفه.. وها هي الآن جالسة تقرأ الصحيفة كأن شىء لم يكن... لكن لحظة.. أجفلت بعيني لحظة لأتأكد أن ما أراه حقيقة.. أجل هو حقيقة.. لص انتزع حقيبة الفتاة وأسلم ساقيه للريح وصرخت الفتاة: الحقوني.. لكن الجميع مازال تحت تأثير الصدمة. حاولت أنا أن أضع نفسي في طريق اللص... ولكن لكمة واحدة كانت كفيله بالإطاحة بي.. وصرخت الفتاة مجدداً: فليفعل أحدكم شيئاً لكن ما رأيته كان كافياً جداً ليسود الصمت بين جميع الواقفين، الشاب المعاق يضرب اللص بالعكاز على ظهره ثم يقف خلف اللص ليضع العكاز بالعرض على عنقه. وركض كل الواقفين في المحطة ليمسكوا باللص المترنح إثر الضربة.. وبعد أن انفضت المعركة.. اتجهت الفتاة للشاب لتشكره، وتقدم الشاب منها.. وناولها الحقيبة.. ومدت يدها لتصافحه لكنه لم يمد يده لها، وانحنى إلى الأرض لتناول عكازه، ثم استدار وصعد إلى الأتوبيس... وطفر الدمع من عيني الفتاة.. وبكت. كلمتنا – يوليو 2002