وصلت هنا منذ دقائق قليلة, دائما ما أرجو ألا يلقى بى حظى التعيس إلى هذه الوسيلة. وقفت أهد وقتى أتأمل محطة الأتوبيس هذه المتهالكة, و أستمع إلى فتوى البشر من حولى " هو لو أنا عاوز أروح مسجد نورى أركب ايه؟ " " انت تركب أتوبيس رقم 14 لونه أبيض فى أخضر هينزلك هناك " و يمكنك سماع معظم أسماء أماكن مختلفة فى مصر فى خمسة دقائق هناك من يريد الذهاب التحرير و آخر إلى العباسية, و أحدهم يريد الذهاب إلى الأزهر, والآخر إلى الكاتدرائية, و حولهم أناس "غلابة" يبدو عليهم التعب و الفقر و الإرهاق, جذبتنى امرأة من بينهم عجوز, تحمل في يدها أوراق كثيرة, و تسألنى عن طريق وزارة الصحة, لم أستطع مساعدتها, فأخبرتها أننى لا أعلم, و تركتها تسبح بين فتاوى البشر حتى تثبت على اختيار. جذبنى سؤال كتب على أحد الأعمدة فى المحطة, كنت أركن عليه بكتفى الأيسر.. " انت مين ؟ " سؤال يبدو سخيفا من شخص سخيف, و لكن أخفى دائما أنى أود أن يسألنى أحد هذا السؤال. "من أنا ؟ " و لأننى أضمن أن الأتوبيس الذى أبتغيه لن يأتى عن قريب, قررت أن أفتش عن إجابة هذا السؤال فى نفسى " فضا بعيد عنكو " .. من أنا؟ .. أنا و بلا فخر ممن يطلق عليهم جموع الشعب المصرى "عيل سيس" أو كما يطلق البعض من كارهى تلك الكلمة " واد من بتوع اليومين دول" أنتمى إلى " الجيل المهبب" كما يخبرنى أبى. أسرتى متوسطة الحال, و قد صارت حياتنا أفضل نسبيا بعد سفر أخى إلى السعودية للعمل. دائما ما يضعون أمامى هدف واحد, هو أن أصبح مثل مصطفى ابن الاستاذ محمد أحد جيراننا, فهو زميلى فى الكلية, وهو أيضا الأول فى كل السنوات الماضية, فكلها سنتين و يطلقون عليه لقب دكتور, هو مثال للالتزام " من البيت للكلية و من الكلية للبيت", هادئ بطبعه لا يلتفت الى " الكلام الفاضى " مثلى. و حينما أخبرهم أنه ليس من الضرورى أن أكون مثله حتى أكون من الرجال المحترمين, فيرد أبى و أمى نفس الرد " يا ابنى انت تطول " مع فارق بسط هو أن أمى تقولها و يملأ عينيها العطف على, و أبى يقولها و عينيه حمرواتان, لا ينظر إلى أكثر مما ينظر إلى حذائه مترددا فى استخدامه. لم أشعر بهذا الفارق فى التفكير بينى و بينهم إلا منذ أعوام قليلة, حينما عاد أخى إلينا فى إجازة و آتانى بجهاز الكمبيوتر الذى تطور اسمه لاحقا إلى " الزفت اللى باقعد عليه ليل و نهار " لقد كان أحد أحلامى. لقد كسر كل التقاليد و الروتين الذى تربيت عليهما, لم أعد فى حاجة إلى معرفة الأخبار من خلال نشرة التاسعة و مشاهدة المذيعين و المذيعات من ذوى الأخطاء اللغوية التى كنت أكتشفها فى صغرى, و لم أعد أرى هذا الفيلم العربى المكرر الممل, لم أكتفى بالأخبار الداخلية, تعرفت على فنانين أجانب أثبتوا لى أن ما يقدم هنا ما هو إلا هزل. لم أعد أسمع كلمة " هو كده " و " الله أعلم " حينما أسأل عن أشياء تبدو لى غير منطقية لكل سؤال إجابة. بدأ أهلى يشعرون بانعزالى عنهم قليلا, لا يفوتون فرصة حتى يقولون " ..... أبو الكمبيوتر ع اليوم اللى دخل فيه, يا بنى قوم ذاكر لك كلمتين ينفعوك " مع أنهم أحيانا يقولون هذا و أنا أذاكر عليه, و مع أنه وفر لهم أموال طائلة من طباعة أوراق و من أموال دورات الحصول عليها فى ظروفنا هذه شبه مستحيل ... قطع سرحان عقلى اضطرابا خلق حولى فجأة .. حالات التأهب و الاستعداد بين جموع الحاضرين, بعدما سمعت أفراد فريق الطلائع – ذوى الأعين الثاقبة – فهم يسطيعون قراءة رقم الأتوبيس من أول الشارع. إنه الأتوبيس الذى أريده, لا سبيل لركوبه سوى الجرى بكل خفة و توازن و الانخراط وسط الناس دون أن أصدمهم أو أن يصدمونى. " هات ايدك .. هات ايدك " نادانى رجل يقف على باب الاتوبيس, جذبنى لأعلى, فى هذه اللحظة أشعر بالخفة التى أراها فى راقصى الباليه, فيبدو أنها هوايته .. الحمد لله تمت المهمة بنجاح. و كأنه متحف شمع كما هو منذ آخر مرة ركبت فيها ذلك الأتوبيس, أشعر أنه لو أننى ضربت على كتف أحد الموجودين سيتناثر من عليه التراب و تلتصق بيدى أعشاش العناكب. نفس الناس نفس الزحمة نفس الأتوبيس غير أنه أكثر تهالكا, نفس الإعلانات القديمة و الجديد يغطيها, من يقرأ الجريدة, و من يوزع بضائعه على الناس, و من تحمل طفلين واحد على رجلها و الآخر بين يديها, و من نفس كل شىء, لم يكن ظالما من أطلق عليه لقب علبة السردين. لا سبيل إلى هروب, هذا المكان دخوله هو أصعب قرارات حياتى, وقتما اتخذته لا رجعة فيه. اتجه بنا الأتوبيس من محطة الدقى فى طريقه إلى رمسيس مرورا بوسط البلد, الطريق حتى كبرى قصر النيل لم يكن فى أحسن الأحوال و لكننا اعتدنا عليه, أرى دوما أن المشكلة يكمن حلها فى ميدان التحرير, فكل الشوارع تصب فيه و تنبع منه. و حينما يسير كل قائد على هواه فى الاتجاه الذى يريده تتشبك السيارات, و يرتبك المشاه و يتجلط الميدان بشوارعه, فقط نريد التزاما بقواعد القيادة. أخيرٍاً وصلنا إلى نهاية كوبرى قصر النيل, كان بجانبى رجل فى سن أبى, شعره رمادى, نحيف و له كرش صغير, استغل فرصة الازدحام ليتحدث معى , كان مبتسما و هو يحدثنى" يااااااه , الكوبرى ده أصيل يابنى, شايلنا من زماااان قوى, شوف كام واحد بيمشى عليه , و كام عربية. حتى فى الزحمة ده مستحملنا, مش الكبارى الجديدة.. قطع حديثه بعض الضحكات- كان زمان واحد بداله دلوقتى أخد بينا غطس فى النيل, هو النيل ناقص .. خدها يابنى منى كلمة حاجة زمان ده مش هتتعوض أبدا " ابتسمت فى وجهه كنوع من المجاملة, وأكملت قراءة الكتاب الذى بين يدى, و حاملى الكتب هنا يستغربهم الكثيير من الناس و ينالون الكثير من التعليقات السخيفة, و على العكس يبدو بعض الاحترام لهم من قليل جدا من الناس. لم أقتنع بكلامه تماما, فقد تبدو الجملة جميلة و تنطبق على هذا المثل, و لكنها ليست قانون يسرى عليه كل شىء, كيف لواحد مثلى أن يقتنع أن القديم أفضل من الحديث و كل يوم أقرأ عن تحديثات لقطع غيار فى الكمبيوتر تسحرنى ؟! بدا الناس كلهم منشغلون بلا شىء فى أغلب الأحيان, أو بالنظر إلى السقف و إلى الشارع, أو بتفحص بعضهم بعضا, عادة غير قابلة للتغيير من قديم الأزل, و لكننى كنت في غاية الضيق من هذا الطريق السخيف, و مشكلة المرور المملة, ما هذا ؟ اننا لم نعبر هذا الكوبرى منذ ثلاثون دقيقة تقريبا.. قطع مللى هذا سماعنا صوت انفجارات متتابعة تأتى من الناحية الغربية جامعة الدول العربية, رجال تهرب, و آخرون يختبئون داخل الجامعة, رأينا سيارات تسير عكس الاتجاه, و سيارات تريد أن تتخطى الرصيف لتعبر إلى الجهة الأخرى و من يئسوا من الحركة هربوا من سياراتهم, أصوات طلقات النار من كل اتجاه تقترب مننا, أناس تجرى إلى حيث تحملهم أقدامهم, ملأ الفزع الراكبين و كلهم أنزل رأسه تحت الكراسى كى لا يصيبهم شر. من هول ما يحدث حولى أصبحت صنما فى مكانى, لا أفهم ما يحدث و لا أستوعبه, كل ما أستطيع تجميعه هو ازدحام كبير جدا يملأ الميدان كله, معظمهم فى مثل عمرى, و يفقدنى تركيزى صراخ الناس من حولى ممن يضعون رؤسهم أرضا بالسؤال عما يحدث .. يسألون السائق كثيرا, فلم يكن يجب, حتى أن البعض ظنوا أنه قد مات, فهو كما يبدو رجل مسن. من خلفه يصرخ مجموعة من الركاب " هما اللعيال ده عايزة, هما ليه بيحاوطوا الاتوبيس كده, هيوقفوا لنا الطريق و مش هنعرف نتحرك خطوة واحدة قدام .. لو العجلة حصل لها حاجة الاتوبيس كله هيقف " فملأ الناس رعبا فوق خوفهم و تصرخ امرأة " حد يمشيهم بقى, حرام عليكو, عندى عيال مالهومش غيرى, عايزة أربيهم" و لكن هذا الرجل لم يذكر أن هؤلاء الشباب يتم مهاجمتهم من عساكر تضربهم بكل عنف و دون رحمة, مع أنى لم أرى أحدهم قد تطاول حتى على أى من هؤلاء العساكر. و لم يذكر أيضا أنهم كانوا يحيطون الاتوبيس و يحمونه بأجسادهم الضعيفة من غشامة هؤلاء. كلما حاولت أن أحدث من حولى بما يحدث يأخذون فى الصراخ, لم يستجيبوا الى دعواتى المتكررة لهم حتى حينما طلبت منهم أن ينظروا خلال النوافذ ليعرفو ا .. لم يعطونى فرصة للحديث حتى أننى تذكرت معاملة أهل نوح له, كانوا يضعون أصابعهم فى آذانهم و يستغشون ثيابهم, و لكن كلما تحدث الرجل نفسه فى الأمام استمعوا إليه, يبدو أنهم يحترمون كبر سنه, و يبدو أيضا أنهم لا يحترمون غيره. خرج بعض الناس من الاتوبيس ليشاهدوا ما يحدث, فقط ليشاهدوا ثم يعودوا, خرجوا رغم ترهيب من حولهم لهم بالخروج, فهم فى نظرهم حتما سيقتلون. خرجوا لدقائق لم نعرف عنهم شيئا, و لكن بعدها عاد اثنان منهم يبدو عليهم التعب و على وجوههم و ملابسهم الدماء, دخلو مسرعين إلى الداخل " حد معاه مياه, حد معاه أى مطهر" لم يفهم الجالسين ما السبب و سأله أحدهم " هو فيه ايه ؟ " رد غاضبا " الناس بره بتموت, العساكر عمالين يضربوهم و سايبين عليهم البلطجية, هتفضلوا قاعدين هنا و سايبينهم ؟؟!! " رد أحد الرجال "و احنا مالنا, هما ايه اللى نزلهم أصلا, هتلاقيهم ضايقوا ظابط و للا حاجة, هو فيه حد فى الدنيا يعمل كده" و كان رد الرجل الكبير فى المقدمة " هتصدقوا يعنى ان جنود مصر خير أجناد الأرض يعملوا كده؟ و بعدين الراجل ده شكله بلطجى, بصه شكله عامل ازاى, مبهدل و شكله جاى من الشارع " و بدا الكثير مقتنعا بكلامه و خرج صوت من بينهم يقول " يللا بقى خلونا نمشى, عطلتونا" و لكن هناك بعض ممن تأثروا بلون الدماء الذى غطا وجه العائدان من الخارج عزموا على الخروج معهم, و من الحين للآخر يتكرر المشهد, يعود بعض الخارجين يطلبون مساعدات من الداخل و يخبرونهم بما يحدث, يرجونهم لمساعدتهم, و لم يتغير فى الجالسين كثيرا نفس الرد.. و قد بدا على بعض الراكبين الملل, و أخذ كل منهم يفتى بطريقة للخروج من هذا الاضطراب "احنا لو أخدنا الكورنيش و نطلع من عند السفارة الأمريكية و .... " فرد رجل ذو لحية " و الله أبدا, لا أعبر من أمام هذا الكيان المجرم " " يا سيدى احنا مش هندخله, احنا بس هنعدى من الشارع" " كفا أرجوك, و بعدين ما اسمك " " كريم " " كريم ايه ؟" " كريم جمال" " أيوة كريم جمال ايه ؟؟ " " ... جرجس " " أيوة , قول كده من الصبح, أمريكا ده ليكوا انتو .. " بدا على كريم الغضب, " ما تنزل طيب وسع لنا السكة " " و اسيب لك مكانى عشان أرجع ألاقيك استوليت عليه, و بعدين ما تنزل انت, خد لك أى ميكروباس من هنا و اتكل " قطع حديثهما طفل " عم الشيخ , يا عم الشيخ " "عايز ايه يابنى" " هو احنا ليه مش بنمشى كلنا من هنا بدل ما نفضل راكبين الاتوبيس " أصابه السؤال بالتوتر و رد عليه " أصلها فتنة يا بنى, الراكب فيها خير من الماشى " و وجه كلامه لنده " و انت يا عمو " " النهاردة مش الحد " " مش فاهم " " و قاطعه الشيخ , اه يابنى لسه أمريكا ما ردتش " قالهم و هو ينظر بعين غاضبة الى جرجس " خليكو انتو فى كندا و أمريكا " فرد عليه " و مالها أمريكا, مش أحسن من قطر و السعودية, ناقص تقول لى ربى دقنك " . . . لقد كان نقاشا مسليا للركاب, فقد نسوا الاضطرابات من حولهم ,و اخذو يتحثون عنه فيما بينهم, لم يعودا يهتموا بمن يعود من الخارج طالبا منهم المساعدة, لم يعدمنظر الدم جذابا, لا أثار الجروح و لا الضرب عادت تشدهم, لقد اعتادوا عليها, استمرت الاضطرابات خارج الاتوبيس و اللغو داخله, تتعالى ضحكات متتابعة من مقدمة الأتوبيس " مش قلت لك .. ها ها ها .. " لقد عزمت على الخروج, لم أعد أحتمل هذه الأحاديث السخيفة أمام منظر الدماء فى كل مكان, و الصراخ و الانفجارات حولنا, حاولت جاهدا العبور بين كل تلك الجثث من حولى, متحملا تعليقاتهم السخيفة, مشفقا على المرعوبين منهم, أرجو أن أملك شيئا يطمئنهم .. قبل الباب بمقعدين جذبتنى امرأة عجوز, هى نفسها التى قابلتها قبل ركوبى الأتوبيس, مشيرة الى كى أقترب منها حتى تحدثنى, بدا عليها الارهاق و التعب, " والنبى يابنى لما تيجى وزارة الصحة ابقى قول لى."