-1- لم نكن نستطيع إلا نتأمل الأستاذ عامراً في كل مرةٍ يدخلُ فيها إلى الفصل فيما يشبه الانبهار فقد كان إلى جانب ملامحه البريئة التي لم تكسوها سنوات عمره الثلاثون بالغبار وسيماً إلى حد كبير بحيث تعلقت به قلوب الفتيات للوهلة الأولى ، بينما كان في مخيلاتنا الرجل الذي نريد أن نكون بقوامه الرشيق وأناقته المبهرة ، وفي أولِ مرة يدخل فيها فصلنا لدقائق لم نستطع إلا أن نشيح الأنظار عن هذا الرجل المتأنق المختال بنفسه ، إلا حينما خاطبنا في صوتٍ رقيق : - السلام عليكم يا أحبائي الصغار. عندئذٍ فقط أدركنا تأثيره الساحر علينا، عندما استطاع أن يجد لنفسه مكاناً وسط قلوبنا، وعلى مدار شهور تالية كان الأستاذ عامر هو الأكثر تميزاً في المدرسة كلها بدرجات طلابه المرتفعة، وانعكس ذلك على فصلنا. ورغم أنني كنت أتخذه في البداية خصماً لي ، ولا أخفي كراهيتي له عندما تضحك سمية على نكاته ، وتستذكر دروسه أولاً بأول بينما لا تفعل ذلك في باقي المواد ، أو عندما تتجه إليه لتسأله سؤالاً بعد انتهاء الحصة ، وعندما يقول بصوتٍ عالٍ : شاطرة يا سمية ، ثم يتجه ليربت على شعرها في حنان فتبتسم له ما يزيد كراهيتي له .. ولها ، ذلك قبل أن أتفهم فيما بعد أنه لا يمكن أن يتزوج طفلةً في الصف الثاني الابتدائي ، فأحببته ، وأحببت دروسه ، كما أحب سميةً تماماً. والأستاذُ عامرٌ رجلٌ طيب وحنون بحق، يشجعنا على التفوق، ويصف لنا العالم كما قرأ عنه؛ فهو لديه الكثير من الكتب في منزله، ويصف لنا المدينة القريبة والقارات والعالم ، فنغمض أعيننا الصغيرة ونحلم بالمحيط البعيد الذي قال لنا أننا لو تفوقنا فسنصل إليه يوماً عند شروق الشمس ونداعب مائه بأذرعتنا تلك ، فلا نملك إلا نبتسم ونرفع أيادينا إلى السماء قائلين : يا رب. حتى أنه عندما ضاعت بطاقته لم ندخر جهداً في البحث عنها في كل مكان وبكينا بشدة عندما أعلن بابتسامته الهادئة أنها ضاعت ، وأنه سيذهب إلى المدينة القريبة لاستخراج أخرى ، ومر يومٌ طويلٌ لم نرّ فيه أستاذنا .. وكان يوماً مملاً بحق. -2- في اليوم التالي جاء الأستاذ عامر، وذراعه اليسرى مربوطة برباطٍ من الشاش إلى رقبته ، وعندما دخل الفصل جرينا نحوه جزعين وعيوننا البريئة هلعة تتساءل عما حدث له ، لكنه ابتسم في إرهاق مشيراً إلينا بيمناه أن نعود إلى أماكننا قائلاً : - لا تقلقوا أيها الصغار.. مشكلةٌ بسيطة وانتهت والحمد لله. لكن حتى هذا القول لم يكفِ ليطمئن قلوبنا الهلعة وعقولنا الصغيرة ، فقال ضاحكاً : - سأخبركم بعد انتهاء الحصة. ولأول مرةٍ نتخلى عن الفسحة من أجل أن نستمع إلى الأستاذ عامر وهو قائلاً بشموخ : - أنتم تعرفون أنني قد ذهبت أمس إلى المدينة القريبة من أجل استلام بطاقةٍ شخصيةٍ أخرى بدلاً من تلك التي ضاعت ولأشتري بعض الكتب لأقرأها، وبمقربة من السوق وجدتُ عسكرياً يضرب شابةً صغيرة تحمل قصعة بها بعض البيض والجبن ضرباً مروعاً حتى أوقع كل ما فوق رأسها على الأرض ، لكن أحداً من الناس لم يتدخل لإنقاذها فتدخلتُ محذراً إياه أن يتمادى مذكراً إياه بحقوق الشعب عليه ، لكنه لم يستجب لي ، فما كان مني إلا أن اشتبكت معه فأصبته في قدمه وأصابني في ذراعي كما ترون إلا أنها إصابةٌ بسيطة ، وأصررت على أن أشكوه بداخل قسم الشرطة ، وعندما عرف المأمور بالأمر استدعاه وأحاله للتحقيق. قالت سمية في جزعٍ لم أستطع أن أخفي غيرتي بسببه : - ولماذا تدخلت يا أستاذ عامر في أمرٍ لا شأن لك به ؟ ! نظر الأستاذُ إليها في سرعةٍ قائلاً في استنكار : - إنه الواجب يا سمية ، على كلٍ منا إذا ما رأى مظلوماً أن ينصره في أي وقت ، وألا يجبن أو يتقاعس ما دام الحق معه ، إن ذراعي المصابة هذه ستبقى كوسام شرف على بطولتي ، وسألتقط لي صورة بأربطة الشاش فأجعلها في بيتي ليراها كل أبنائي فيفعلوا مثلي. عندئذٍ لم أتمالك نفسي إلا أن أصفق إعجاباً بالأستاذ وشجاعته مردداً بصوتٍ عالٍ : - يعيش الأستاذ عامر ! وردد الفصل كله خلفي : - يعيش .. يعيش .. يعيش. -3- قال بائع الخضار وهو يكيل الطماطم للأستاذ عامر : - أصحيح يا أستاذ ما نسمعه أنك تشاجرت مع عسكري شرطة ؟ احمرّ وجه الأستاذ عامر حياءً كعادته ، ثم استدرك نفسه للحظة قائلاً : - لم يكن أمامي سوى هذا ، وأي رجلٍ مكاني كان سيفعل ذلك أيضاً .. تصور يا عم أمين أن عسكري الشرطة كان يضرب رجلاً عجوزاً بقسوة لمجرد أنه طلب منه أن يجتاز به الشارع ؟ ! وتمتم عم أمين في سرعة : - أستغفر الله .. أستغفر الله. استطرد الأستاذ عامر قائلاً : - فما كان مني إلا أن انتهرت العسكري في قسوة أمام الناس، وعبرت بالرجل العجوز الشارع، فاغتاظ العسكري ، وهجم عليّ يريد ضربي ، فاشتبكت معه فأصبت قدمه وأصاب ذراعي كما ترى ، فشكوته لمأمور القسم فرد لي حقي ، وأحال العسكري للتحقيق. وكان العم أمين قد انتهى من وضع الطماطم في كيس من البلاستيك ، عندما كان الأستاذ يمدُ يده بالنقود ، فانتفض صائحاً : - معاذ الله .. معاذ الله .. يا أستاذ أنت بطل .. وهذا أقل ما نقدمه لك. وأخذ كل من بالسوق يقول للأستاذ عامر : - جزاك الله خيراً .. شرفت قريتنا يا بطل .. هكذا يكون الرجال. بينما الأستاذ عامر يسير ووجنتاه محمرتان كالعادة. -4- بعد أن استمع الحضور على القهوة لحكاية الأستاذ عامر ودفاعه عن المرأة الشابة ضد العسكري الذي كان يريد أن يأخذ منها إتاوةً وتصديه لها، استأذن الأستاذُ في بعض الراحة ، وانصرف وسط هتافات الناس المستحسنين لتصرفه الشجاع ، وبينما كان يصعد درجات السلم ، كان عقله لا يزال يعمل كموتورٍ لا يريدُ أن يتوقف : - لا كانت طفلة صغيرة، وكان العسكري يريد اغتصابها فرفضت وصفعته على وجهه فضربها، فتدخلتُ أنا وضربته.. لا لا لقد ضرب العسكري امرأةً عجوزاً أمام ابنتها الصغيرة فبكت، وتأثرت أنا لبكائها وضربته فأدميته. إلى هنا كان الأستاذ عامر قد دق الباب بوجهٍ كظيم وعقلٍ مشتتٍ ونفسٍ ضائعةٍ، فتحت له أمه العجوز، لكنها لم تكد تراه على هيئته هذه حتى ضربت يدها على صدرها قائلةً: - يا ضنايا يا ابني ! حينها لم يكن ليتحمل المزيد فاحتضنها وانهال على يديها تقبيلاً وقال باكياً : - لا ذنب لي يا أمي ، قلت له : مش عيب عليك يا شاويش تضرب عجوزاً في عمر والدتك .. فالتفت لي في شراسة وسبني وسبكِ بألفاظٍ نابيةٍ تجمدتُ لها قبل أن أفيق على عصاه وهي تنهش لحمي بقسوةٍ أمام الناس .. ذهبت إلى المأمور منهاراً فاستمع لي بلا مبالاة ، واستدعى العسكري وأجبرني على تقبيل حذائه وألقى ببطاقتي إلى الشارع ، وقال لي : لو رأيتك هنا يا حيوان مرةً أخرى فلن تخرج حياً على قدميك .. ترى يا أمي هل أنا خائنٌ لأولادي إذ أمنيهم بالمحيط ؟ ! تمت