لا يوجد شك في أن الشاب المصري "محمد أحمد محمد إبراهيم" ابن مدينة الإسكندرية المتهم في قضية تجسس وهمية حكم عليه نهائيا فيها في الجزائر مؤخرًا، يفكر حاليا بذهول في كيفية تحول معاكسة تليفونية بينه وبين "فيروز" الجزائرية إلي حكم نهائي بالسجن بعيدًا عن مصر لمدة عشرة أعوام كاملة متهمًا في قضية «لا رأس لها ولا ساق» رفضت محكمة وهران الجنائية نقضه للمرة الثانية في صباح 28 نوفمبر 2011، وترسخ في وجدان قضاة المحكمة الجزائرية أن محمد الذي بلغ في 14 أكتوبر الماضي سن ال27 عاما، عمل جاسوسا دون أن تثبت المحكمة واقعة تجسس واحدة طبقًا للقانون ودون أن يكون هناك طرف ثان أو حتي ثالث تجسس لحسابه الشاب المصري سيئ الحظ. نعود لوقائع قضية محمد الجاسوس الذي لم يتجسس لحساب أحد طبقًا لأقوال محاميه المصري الجزائري "نبيل صقر" الذي بذل في دراسة قضيته مجهودًا كبيرًا علي مدي أكثر من عامين بتمويل ودعم كامل من شركة "صب سي بتروليوم المصرية" في منطقة سموحة بالإسكندرية التي يعمل بها محمد. قصة محمد مواليد 14 أكتوبر 85، يمكن أن تحدث لأي شاب في أي مكان بالعالم.. ولد لعائلة بسيطة للغاية، ربته علي التواضع وحمد الله علي القليل.. بذلت أمه في سبيل تربيته الكثير لأنه وحيدها علي بنت واحدة، نجحوا أخيرا في سترها - طبقا لما يقال في الأحياء المصرية الفقيرة - عمل والده واقتصد من قوت الأسرة حتي يتعلم ابنه ويحصل علي دبلوم الصنايع من مدرسة السلام بمحطة مصر بالإسكندرية ثم حصل علي دورات تدريبية مكثفة في أعمال اللحامات تحت البحر والغطس الصناعي. في إبريل 2008 نجح والده في أن يحصل لمحمد علي فرصة عمل بالشركة المصرية صب سي بتروليوم المعروفة في المدينة بأعمال الخير بمبلغ ألفي جنيه مصري لم تكن الأسرة تحلم بها وإلي هنا كان القدر كأنه ابتسم لمحمد أخيرا. كان حظه في البداية يبشر بالخير، ففي نفس الفترة تقريبًا كانت الشركة المصرية قد حصلت علي تعاقد مع شركة «سوناطراك» الجزائرية الدولية في ميناء وهرانالجزائري وكان الاحتياج إلي سفر عدد من الغطاسين، فتشاور محمد مع والدته ووالده علي السفر فقررت والدته بحس المرأة المصرية الشعبية أن تخطب له ابنة الجيران حتي تحافظ عليه وبالفعل خطبت له فتاة جميلة من عائلة كريمة ليسافر محمد بعدها بأيام ضمن أحد أطقم الشركة للجزائر ليصلها في 1 يوليو 2008 علي متن السفينة الدولية 2 المملوكة للشركة المصرية صب سي التي كانت في تعاقد لأعمال الهندسة والصيانة والأعمال البحرية المحترفة في منصات تصدير البترول في ميناء مدينة وهران وموانئ شيكادا وبجاية وأرزيو الجزائرية ضمن أسطول يزيد علي ال11 سفينة تابعة للشركة المصرية التي تعمل منذ عام 1977 في معظم موانئ البحر المتوسط. في الجزائر كان محمد يعمل علي مدار الساعة في أكبر مدينة للبترول والغاز الطبيعي في شمال إفريقي وحوله مصانع تكرير البترول العملاقة ومصفاة النفط الجزائرية التي تتبع وهران ثاني أكبر ولاية جزائرية ومن حوله لم يكن هناك سوي رجال وشباب يعملون ليل نهار من أجل لقمة العيش. ربما كانت الليالي صعبة علي ابن ال24 وقتها وهو وحيد والدته الذي لم يترك الإسكندرية طيلة حياته ففكر في قتل الوقت بفكرة شيطانية طرأت علي باله وهي أن يلهو بخط التليفون الموجود في غرفته كل مساء ليتسلي بالاتصال بعشرات الأرقام العشوائية بحثا عن صوت نسائي يؤنس وحدته، وفي المكالمات كان يقدم نفسه للفتيات علي أنه بطل وضابط مغوار في الضفادع البشرية المصرية. وشاءت الأقدار أن يتعرف في إحدي المرات علي أنثي ذات صوت رقيق عذب استجابت لمكالماته الليلية وراحت تبادله كلمات الحنان تلك هي «فيروز» كما جاء اسمها بأوراق الدعوي الغريبة. جمع محمد وفيروز عامل مشترك وهو الكذب، فمحمد كذب عليها وأخبرها أنه بطل وكانت هي الأخري تكذب عليه بأنها ابنة مدللة لأسرة جزائرية ثرية وهي ليست متزوجة وبدون ارتباطات عاطفية. في الواقع زوج العصافير الكاذب لم يتقابلا نهائيا إلا أثناء محاكمتهما وكان أول لقاء لهما داخل القفص في قاعة المحكمة الجزائرية الجنائية لولاية وهران، فسخرية تلك القضية الغريبة تثبت أن فيروز كانت تعيش في ولاية «سطيف»الجزائرية التي تبعد ألف كيلومتر عن مدينة وهران التي عاش فيها محمد بمساكن العمال داخل الميناء. كانت كل علاقة محمد مع فيروز تليفونية بحتة، أخبرها هو أنه ضفدع بشري مصري محترف يساعد بلدها في أعمال بطولية عظيمة وهو يبحث عن عروس وأنه وقع في غرامها عبر الهاتف ووعدها بزيارة يطلب فيها يدها في أول إجازة له كانت ستكون بعدها بستة شهور. أما فيروز فأخبرته بدورها أنها عشقته وأنه فارس أحلامها مع أن أوراق القضية تثبت أن فيروز كانت وقتها متزوجة من قريب لها ولها منه ابنة عام ونصف العام لكن زوجها كان سيئ الطباع مدمناً لخيانتها وكان يقسو عليها بالضرب كل يوم ورفض أهلها أن يطلقوها منه، فراحت علي ما يبدو هي الأخري تبحث عن الحنان المفقود في مكالمات محمد وفكرت أنه أفضل فرصة كي تهرب من زوجها وعائلتها. فيروز راحت بعدها تتصل بمنزل أسرة محمد بمدينة الإسكندرية في مصر يوميا حيث تقول: «أم محمد» وهي تحكي ل«روزاليوسف»: «في البداية لم أفهم كيف أنه خطب ابنة الجيران وتلك الفتاة الجزائرية تتحدث معي كل يوم علي أنها تحب محمد وأنهما سيتزوجان».. ثم تصمت وتقول: إنه لم يتبق لها من ابنها غير الخطابات الشهرية يبكي فيها محمد بأنه بريء». وتعود الأم لتتذكر أن فيروز قد حكت لها عدة مرات أنها تدرس في عامها الأخير في كلية الهندسة بولاية سطيفالجزائرية لكن أوراق القضية كشفت أنها غير متعلمة أساسًا. محمد - والحديث علي لسان محاميه المصري نبيل صقر المقيم بالجزائر - كان قد شط في القصص الوهمية ولكي يبهر فيروز قرر أن يأخذ لنفسه عدداً من الصور بملابس الغطس مكونا لنفسه ألبوم صور به 25 صورة في عدة مواقع داخل مجمع البترول الحكومي الجزائري، ولحظه العثر كانت المنطقة كلها محظور التصوير فيها لأنها مناطق أمن قومي جزائري. مثل أي شاب في سنه طبع الصور في أقرب معمل صور بالمجمع وطلب من أحد السائقين أن يسافر بالألبوم إلي حبيبته فيروز في ولاية سطيف التي وعدت محمد يومها بأنها ستساعده في تأسيس عش زوجية لهما في مصر، وبالفعل جمعت كل مدخراتها تقريبا وكانت عبارة عن مبلغ ألف يورو وأرسلتها إلي أمه في الإسكندرية حتي تبني لهما شقة صغيرة في نفس البيت الذي يسكنون فيه. قصة ساذجة لم يتخيل فيها العاشقان أن معمل تحميض الصور الموجود في داخل الميناء بوهران قد أبلغ المخابرات العسكرية الجزائرية عن الفيلم الذي تم تحميضه لمحمد الغطاس المصري وفي صباح 21 أكتوبر 2008 أي بعد وصول محمد للجزائر بنحو ثلاثة أشهر طرق بابه ضباط المخابرات العسكرية الجزائرية وألقوا القبض عليه، وفي نفس التوقيت كانوا يلقون القبض علي فيروز في سطيف لتتحول بقدرة القدر قصة الوهم الذي عاش فيه محمد وفيروز إلي قصة جاسوس يعمل لحساب فيروز والمثير للغاية أن مبلغ الألف يورو هو الدليل الوحيد الذي تمسكت به سلطة الإدعاء الجزائرية كي تثبت صحة قضيتها أما لمن عملت فيروز مع محمد فلا توجد إجابة قانونية بالقضية. أما القبطان "رامي عبدالعزيز" رئيس مجلس إدارة صب سي بتروليوم - الشركة المصرية التي أرسلت محمد للجزائر - فيحكي ل«روزاليوسف» قائلا: "القضية كانت محرجة لنا بشكل مباشر فشركتي بنيتها علي مدار أكثر من 30 عاما ولنا سمعة دولية محترمة والقضية غريبة وملفقة، فمحمد مجرد شاب ترك أكل العيش وراح يعبث ويلهو كالأطفال فأوقعه حظه العثر في تلك المصيبة غير المبررة" وعلي حد تعبير القبطان رامي محمد كان يستحق قلمين علي وجهه وليست قضية تجسس و10 أعوام كاملة في السجن.