حينما أشعر بالغربة، وكثيراً ما أشعر بالغربة! فإننى أهرع إلى النفس، ألتمس الفرار من الغربة بالصحبة، وأشاركها الحوار. قالت النفسُ فى مكر: «تبدو حزيناً!». قلتُ وأنا أتنهد: «أشعر بالشجن.. مشهد مبارك فى القفص كان رهيباً. عسيرٌ علىَّ أن أراه فى مقام الذل الذى لا ينبغى إلا أمام الله عز وجل، لأنه من أخص خصائص الألوهية». ضحكت نفسى ساخرة وقالت: «بعض الناس يتوحدون مع الجلاد. أليس الأنسب أن تتأسف على الضحايا! من ماتوا غيلة وغدراً. من قضوا رحلة الحياة فى بؤس وفاقة. من عاشوا وماتوا لم يذوقوا طعم اللحم إلا فى الأعياد. من سكنوا العشوائيات. من لا يستطيعون الوصول إلى بيوتهم إلا بخوض المجارى. ما الذى يزعجك بالضبط! هل كان ممكنا أن نغض الطرف عن تلك الجرائم؟ أم تود أن يكون فوق مقام المحاكمة؟!». قلتُ: «مهلا يا نفس. أنا لست حزيناً لأنه يُحاكم. أنا حزين لأنه أورد نفسه مسالك الهلاك. أحياناً أفكر: أتراه لو اطلع على الغد، هل كان يقبل الرئاسة؟». قالت النفس: «أظنه كان سيقبلها! سيقول: أحيينى اليوم وأمتنى غداً، وربما تصور أنه سينصت إلى نبض الشعب ويغيّر أقداره، وفى النهاية يسعى إلى حتفه، حسبما هو مكتوب». قلت فى حزن: «لشد ما تؤلمنى غفلة الإنسان أمام الغيب المرهوب. لذلك يستميت فى دق الجدار الأصم. لذلك يستطلع الغيب ويلجأ للعرافين. لذلك يلصق وجهه بأستار المجهول، محاولاً أن يصنع ثغرة ويلقى نظره!». قالت النفس فى بساطة: «الأمر لا يحتاج إلى بلورة سحرية تنظر من خلالها للغد. الغيب يكشف عن طرف السر لمن يجلس فى مقاعد الحياة فى تواضع ويُنصت لدروس الحياة». قلتُ مبتسما وقد أعجبنى حديثها: «وماذا قالت لك الحياة يا نفسُ؟». تنهدتْ وقالت فى شجن: «قالت ما قاله الله عز وجل:( والعاقبة للمتقين)». سألت النفس فى حيرة: «ترى كيف سيكون حكم المحكمة على مبارك؟»، قالت النفس فى هدوء وثقة: «لا شك عندى فى إدانته». قلت فى عناد: «وبراعة المحامين يا نفس؟ وحيلهم القانونية التى لا تنتهى!؟». قالت النفس فى حزم: «مبارك سيحصل على حكم بالإدانة، لأنه لم يعمل حسابا لمثل هذا اليوم قَط. لأنه لم يتصور أنه سيُحاسب. وبالتالى لم يرتب أوراقه ويأخذ احتياطه. لو خطر على باله أنه معرض للحساب لما كان فى هذا الموقف العصيب». قلت وأنا أتنهد فى حزن: «لقد جئتِ يا نفسُ على الجرح الذى يكوينى، ويؤلمنى ويدمينى». أحيانا أفكر، بينى وبين نفسى، أننى لو كنت أؤمن، حقاً ويقيناً، بيوم الحساب، وبأننى سأقف أمام ربى ليسألنى عما فعلت، لما اقترفتُ ما اقترفت، وما اجترحتُ الخطايا». قالت نفسى فى خشوع: «صدقتْ. كل ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون. فلنطلب العفو الكريم من رب كريم فى شهر كريم. اللهم لا تحاسبنا بذنوبنا وأنت قادر علينا، واصفح الصفح الجميل». [email protected]