سؤال سخيف فى لحظة يعاد فيها بناء جمهورية بلا فراعنة. الفرعون لا يولد فرعونا. الفرعون يولد حين يكون العقد بين الحاكم والشعب مبنيا على تفويض أكبر من الوظيفة التى يقوم بها. وهذا هو المرعب فى من يرفعون اليوم شعار «دولة الخلافة». هم يريدون إحياء علاقة بين الحاكم والشعب تقوم على البيعة، أى التفويض الدائم، يحكم فيه الحاكم باسم «إرادة أعلى» من كل شىء. ماذا يحدث عندما يختلف الشعب مع الحاكم؟ أو تختلف معارضة مع برنامج سياسى؟ هل نختلف مع الله؟ أم نختلف مع الإسلام؟ هكذا بدت صيحة دولة الخلاقة قادمة من زمن منقرض.. وما تبعها من اتهامات للمختلفين مع الفكرة بأنهم كفرة، وعلمانيون، إلى آخر هذه الاتهامات التى تحاول اللعب على المشاعر الدينية لشعب عاطفى، وتمنعه من التفكير فى ما يقال له. نفس منهج دولة الاستبداد. الجنرالات، وآخرهم مبارك، كانوا يصفون الخارجين عن طاعتهم بأنهم قلة مندسة، مشاغبة.. باعت بلادها.... تكفير وطنى لا يقل عنه استبدادا تكفير من لا يؤمن بدولة الخلافة. هذه صيحات تثير الذعر فى قطاع مدنى تصور أن «ثورة الميدان» ستبنى مصر حديثة. القطاع المدنى هم طبقة وسطى جديدة، حالمة بدولة على الموديل الغربى، لا ترفض الدين، لكنها لا تريد حكم الفقهاء، أو من يعتبرون الخلاف معهم خلافا مع الله أو مع الإسلام. أما أصحاب صيحات الخلافة فقد عاشوا تحت سيطرة وإدارة أجهزة الدولة البوليسية، والآن هم أحرار، يصرخون بهستيريا أكثر منهم يقدمون مشروعا أو يبنون مستقبلا سياسيا. هكذا بدا السلفيون بهوجات تحطيم الأضرحة وقطع أذن المسيحيين، خارج لحظة صنعتها ثورة المدينة. السلفيون هم هوجة ما بعد الحرية، وفوران مادة سريعة الاشتعال بعد تغيير التركيب الذى تعودت عليه. الفوران والهوجة ليس سياسة، كما أن الخرافات القديمة لا يمكن أن تمثل واقعا فى لحظة انتصار الثورة. هذه إذن أشباح قديمة تحجز موقعها بقوة فى وعى ما بعد الثورة وتصنع هلاوس المريض: الجيش تحالف مع الإخوان، السلفيون سيحكمون، إنها مؤامرة مشتركة بين الحزب الوطنى والجيش والجماعة والسلفيون، لحكم مصر.الهلاوس تستبدل بالخيال الذى صنع الثورة وتضخم من واقع سياسى يعبر من الاستبداد إلى الديمقراطية بصعوبة، ودون ذاكرة صحية لممارسة السياسة. هناك أخطار بالطبع، تقطع الطريق إلى مصر جديدة، لكن بدلا من النظر إلى هذه العوائق، يعيش صناع الثورة كوابيس ما بعد الانتصار. لم تحسم مصر معاركها. 200 سنة عمر مشروعها باتجاه دولة حديثة، والمعارك مؤجلة، المشروع لم يكتمل، المشوار يقف فى المنتصف، والدولة لا تكتمل، والحياة تسير بهذه التركيبة العجيبة: دولة حديثة، لكنها ليست حديثة تماما، مدنية لكنها تعتمد على شرعية دينية مستترة، تظهر عند ساعات الخطر على النظام بداية من العدوان الثلاثى عندما أعلن عبد الناصر المواجهة من منبر الأزهر، وحتى اعتماد مبارك على فتوى شيخ الأزهر فى تحريم المظاهرات فى أثناء الثورة، شرعية الدين، لا الدين، مقيمة فى مكان فى تركيبة «الدولة» المصرية. الدولة ورثت تراثا من محاولة البحث عن شرعية دينية لجنرال يسيطر ويغلب خصومه. الشرعيتان متلازمتان فى الدولة التى ورثت إمبراطورية الرجل العثمانى المريض. ولأنه لا كنيسة سياسية فى الإسلام، فإن التنظيمات التى تحمل فكرة الخلاص، وإنها تملك الحل، استعارت الكنيسة بعد أن وضعت عليها أقنعة إسلامية. السلفيون، وبشكل أقل الجماعة، هم بضاعة قديمة تريد المرور من جمارك حديثة، تتحايل وتصدر أصواتا عالية، فاللحظة ليست لحظة تنظيمات الخلاص و«الإسلام هو الحل»، الجمهور الواسع لا يريد أيديولوجيا الخلاص بقدر ما يريد بناء دولة حقيقية تقدم له خدمات التعليم والعلاج وتتيح له العمل ويعيش على أرضها بكرامة. دولة، لا يمكن أن تقام حولها أسوار حديدية لتكون «مزرعة تجارب لإعادة تربية البشر» كما تفكر تنظيمات الأصولية الإسلامية، ولا دولة تقهر فيها الأغلبية الدينية أقلياتها وتتعامل معهم على أنهم ضيوف. الدولة فى مصر لأنها لم تحسم تكوينها ولم تشكل مؤسساتها، لكنها أرادت فقط ترويض شعبها، فقد لعبت كل الألعاب لتضمن السيطرة.