لم يكن أحد يتصور قبل ثورة 25 يناير أن المجتمع المصرى يعيش فى أحشائه كل هذا الكم من الفساد المخيف الذى تفجر وانكشف فى الأيام الأخيرة وأزكمت رائحته الأنوف وقززت النفوس وأربكت المحققين فى النيابة العامة لكثرتها وتعددها وحجمها الرهيب. ومع أنى قلت منذ أكثر من أربع سنوات فى محاضرة عامة فى المعهد القومى للتخطيط حضرها بعض كبار المسؤولين، إن «مؤسسة الفساد فى مصر» هى أقوى المؤسسات وأكثرها نفوذاً، وإنها وصلت - كما قلت آنذاك - إلى أبواب الجامعة وأبواب القضاء، وأشرت إلى قصة تتعلق بفرنسا عقب الحرب العالمية الثانية وتحريرها من حكم النازى ولقاء ديجول بصديقه الكاتب الكبير مارلو - الذى صار وزير ثقافة فيما بعد - سأل ديجول مارلو قائلاً: أنا أعلم أن الاحتلال النازى دمر كل القيم الحرة فى فرنسا وأشاع فيها الفساد، ولكن حدثنى عن الجامعة والقضاء.. فأجاب مارلو: mon General ca va en peut، أى أن الأمر بالنسبة للجامعة والقضاء مازال يسيراً وإن كان على نحو محدود، فأجابه ديجول: إذا كانت الجامعة والقضاء لم يصبهما الانهيار الكامل كشأن غيرهما من المرافق، فإننا نستطيع إعادة بناء فرنسا. وهذا هو الذى دعانى إلى أن أحذر قائلاً: إن الفساد قد بدأ بطرق أبواب الجامعة وأبواب القضاء، وعلينا أن نتدارك الأمر قبل أن يستفحل. كان ذلك فى ندوة منذ أكثر من أربع سنوات حرصت فيها على ألا أكتم كلمة حق مهما كانت العقبات، ولم تكن العقبات يومها بسيطة ولا يسيرة. والآن وبعد أن تكشف هذا الحجم الرهيب من الفساد الذى ملأ صفحات الصحف حتى تلك التى كانت تنكره من قبل.. ما العمل؟ تقديرى أن هناك أمرين يجب التعرض لهما: أولاً: لماذا حدث ما حدث؟ ثانياً: هل هناك تجارب فى العالم تصدت لمثل هذه الظاهرة التى نعيشها هذه الأيام؟ وما تلك التجارب؟ وهل نجحت فى احتواء الفساد والاقتراب من القضاء عليه؟ وأحب أن أقرر هنا أن التعميم دائماً يوقع فى الخطأ وفساد الأحكام. ليس كل رجال الأعمال فاسدين، كما أن كل الناس ليسوا ملائكة وليسوا أيضاً شياطين. من رجال الأعمال المصريين من يستحق أن نحنى لهم الرؤوس وأن نقدرهم كل التقدير، وأذكر هنا على سبيل التمثيل لا الحصر بعضاً من هؤلاء.. من لا يُقدر الرجل العصامى الصالح الحاج محمود العربى وأولاده، الذى بنى قلاعاً صناعية، وأوجد فرص عمل لآلاف ولم يبخل عن فعل الخير. ومن لا يُقدر المهندس نجيب ساويرس، الذى يعتبر من أغنياء العالم، والذى لم يشتهر عنه فساد أو إفساد، والذى أقام مؤسسة خيرية ثقافية تأخذ بيد الناشئين من الأدباء وتقدم لهم جوائز قيّمة، ذلك فضلاً عن إسهامه الواضح فى الاقتصاد المصرى بل الإقليمى، وقد أقول العالمى، نجيب ساويرس وعائلته يستحقون كل الاحترام والتقدير. والدكتور مهندس سعد سلام، الذى أقام صرحاً ضخماً فى دنيا الصناعة سد حاجات العديد من الطبقة الوسطى، وجعل بيوتهم مريحة وعصرية، ومع ذلك فقد أسهم هو وأسرته فى خير كثير ليس أقله «بنك الطعام».هؤلاء وغيرهم كثير من رجال الأعمال الشرفاء، ولكن الكم الضخم من الفساد، الذى كشفت عنه الأيام الأخيرة بعد انهيار النظام السابق يجعلنا نطرح التساؤل: لماذا حدث ما حدث.. وكيف نواجهه؟ حدث ما حدث لأسباب عديدة لعل أهمها غياب سيادة القانون والزواج بين السلطة والثروة فى السنوات العشر الأخيرة من النظام السابق على 25 يناير. والحقيقة أن غياب سيادة القانون والتمييز بين المواطنين وفقاً لقربهم أو بعدهم عن مواقع السلطة أدى إلى فساد كبير، وحجم الأراضى التى نهبها الأصهار والأقرباء والمحسوبون على السلطة واشتروها بجنيهات قليلة ثم باعوها بألوف كثيرة وحققوا من وراء ذلك مليارات المليارات، وهذه صورة واحدة من صور إشاعة وتشجيع الفساد ومكافأته. وهناك صور أخرى كثيرة وصفقات أخرى عديدة شارك فيها بعض من كانوا فى السلطة مع بعض من كانوا يلوذون بها ويساندونها، وقد أشاع ذلك كله قدراً من الفساد وجعل القيمة الأساسية فى المجتمع بدل أن تكون قيمة العمل المنتج هى قيمة «انهب بسرعة ثم اهرب بعيداً»، وهكذا دُمرت كل قيم المجتمع الفاضلة والنبيلة والمنتجة، وساد واستشرى فيها الفساد والإفساد. وإذا كانت هذه أهم بعض صور الإفساد فإن ثمة صوراً أخرى عديدة لا أستطيع أن أتتبعها فى مقال واحد. وإذا كان ذلك كذلك فكيف تكون المواجهة وكيف يكون الخلاص؟ هناك بطبيعة الحال جهات التحقيق التى تتمثل أساساً فى النيابة العامة ثم القضاء، ومازال قضاؤنا والحمد لله - فى غالبيته - يمثل قلعة من قلاع العدالة. ولكن هذا الحجم الرهيب من الفساد فى أعداد مرتكبيه وفى حجمه غير المسبوق قد يحتاج إلى معالجة أخرى. وهنا أحب أن أشير إلى تجربة رائعة تمت فى جنوب أفريقيا بعد زوال النظام العنصرى وبدء التحول نحو الديمقراطية ورئاسة العظيم نيلسون مانديلا، الذى خرج من السجن بعد قرابة ثلاثين عاماً ليرأس جنوب أفريقيا لمدة واحدة، ثم يصر بعد ذلك رغم الإلحاح الشعبى على ألا يجدد ولو لمرة واحدة تالية، ودخل بذلك تاريخ الإنسانية كله بكفاحه ونضاله وتجرده. هل يقارن هذا العملاق بما عرفنا من أقزام فاسدين استمدوا وجودهم من كراسى آلت إليهم عن طريق الصدفة، وبقوا عليها ثلاثين أو أربعين عاماً؟ المهم شهدت جنوب أفريقيا تجربة رائعة لمواجهة الفساد ونجحت هذه التجربة نجاحاً كبيراً.. هذه التجربة تتمثل فى إنشاء مفوضية أو هيئة سميت «هيئة الحقيقة والمصالحة»، وقد أنشئت هذه الهيئة بمقتضى قانون صادر فى 26 يوليو 1995 سمى قانون «تعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية». وكان القانون يهدف إلى إظهار الحقيقة والمصالحة فى نوعين من الجرائم التى هدت كيان مجتمع جنوب أفريقيا قبل الدستور الصادر عام 1993 بعد انتهاء فترة الحكم العنصرى، وهذان النوعان من الجرائم هما جرائم الاعتداء على حقوق الإنسان وجرائم الفساد. وقد جاء فى ديباجة هذا القانون - القانون رقم 1111 لسنة 1995: بما أن دستور جمهورية جنوب أفريقيا لعام 1993 (قانون رقم 200 لعام 1993) يوفر جسراً تاريخياً بين ماضى مجتمع عميق الانقسام يتسم بما لا حصر له من النزاع والصراع والمعاناة والظلم، وبين مستقبل مبنى على الاعتراف بحقوق الإنسان والديمقراطية والتعايش السلمى لكل مواطنى جنوب أفريقيا، دون النظر إلى اللون أو العرق أو الطبقة أو العقيدة أو الجنس. وبما أن الدستور ينص على أن السعى إلى الوحدة الوطنية ورفاهية كل مواطنى جنوب أفريقيا والسلام يحتاج إلى المصالحة بين مواطنى أفريقيا وإلى إعادة إعمار المجتمع، وبما أن الدستور يذكر أن هناك حاجة إلى التفاهم وليس إلى الانتقام، حاجة إلى الإصلاح وليس إلى الرد بالمثل، حاجة إلى النزعة الإنسانية وليس إلى التمثيل بالغير. وبما أن الدستور يذكر أنه من أجل تعزيز مثل هذه المصالحة وإعادة البناء، فإن العفو سيُمنح فيما يخص أفعالاً وإغفالات وإساءات مرتبطة بأهداف سياسية تم ارتكابها فى سياق صراعات الماضى. وأعتقد أننا فى مصر نحتاج إلى مثل هذا القانون الذى قد يكون من ورائه خير كثير، خاصة فيما يتعلق باسترداد الملايين الطائلة المنهوبة. وكان الله فى عون مصر.