كنت أعتقد حتى وقت قريب أن غسيل الأدمغة لا يتم إلا على أيدي بلطجية الأنظمة الديكتاتورية بما أوتوا من صلاحيات الأكف الغليظة والعصي المكهربة، حتى رأيت بأم عيني - لا أعرف من أتى بهذا الاصطلاح تحديدا، ولا أستطيع أن أجزم أن للعين أم أو حتى زوجة أب - سطوة الإعلام المعاصر على أدمغة بني جلدتي، وكيف أن الرجل منهم ينام يمينيا ليصبح يساريا، أو ينام على اليسار ليصبح بقدرة قادر في أقصى اليمين المتطرف من سرير الفكر. وكنت أعجب لمن يفقد في الإعلام رأسه، ثم أراه يرتدي قبل أن أقوم من مقامي رأسا غيرها ليحدثني بنفس لباقته المعهودة مستخدما نفس العبارات النارية ونفس اللسان الزلق القادر على الدوران في محيط فمه الواسع كمحيط الأدمغة المتراصة أمام نافذته والتي شغلتها الأحداث عن النظر إلى الألسنة التي تلحس عقولها المنبعجة بالدهشة والغارقة في البلاهة والساعية لالتقاط أي خبر يكون محور نميمة عند لقاء الأصدقاء أو الجلوس مع أفراد الأسرة حول مائدة الطعام. وحين قرأت بعض تقنيات غسيل الأدمغة بأشد مساحيق الفكر بياضا أدركت أن وقع الكلمات على أفئدة الناس أشد من وقع آلاف الأقلام فوق أقفيتهم المكتنزة، وأقدر على تغيير بوصلة توجهاتهم من آلاف الرعشات تحت ترددات كهربائية تكفي لإنارة مدن بكاملها. وأدركت حين رأيت آلة الإعلام تشكل بأسنانها الحادة عقول الناس كغانية تلوك علكة بين مقدمات أسنانها وتنفخ فيها لتشكل بالونة شديدة الإنفجار أن العقل الذي كنت أقدسه حتى زمن قريب ليس بهذه القداسة، وأننا نحتاج إلى فهم آليات الاختراق حتى نستطيع أن نصمد أمام ريح الغزو الفضائي الذي يمتد كسرطان بين غدد مفكرينا ليصيب خلايا عقولهم بالعطب وخلايا أفهامهم الحية بالترهل. في البداية، يختار أساطنة الإعلام المُوَجّه قضية ساخنة تسبب حالة تشنج وهياج عند غالبية الناس، ويبدأون في نفخ الأبواق كل حسب استطاعته، وكلما كانت القضية أكثر شمولا كان الانفجار أعظم. ويستمرون في الضرب على أوتار العاطفة حتى تتهتك أغشية العقول ويبدأ التهافت والتهاوي، فتترنح الأفكار يمنة ويسرة كفتاة أقام لها أهلها زارا كي يطردوا الأرواح الشريرة التي التبست بجسدها. ومع النفخ في بوق العاطفة والدق على طبول الحمية، يعزف الموسيقيون البارعون موسيقى ذات إيقاع يحاكي إيقاع نبضات قلوبهم، فتزداد دقات الكعوب فوق أرصفة التمرد ويرتفع سلم الطموحات. وعلى إيقاع الحناجر التي تردد هتافا واحدا، يتشكل ضمير جمعي واحد، ويخفت صوت العقل التحليلي الذي يقع في الفص الأيسر من الدماغ، فتتضاعف إمكانية التأثير على العقول الواقعة تحت خدر تنويم مغناطيسي مؤقت. وهنا يعتلي المنصة متحدثون ماكرون يبدأون من المسلمات التي لا يختلف عليها سامع، ثم ينتقلون من المسلمات إلى الآراء التي تخطئ وتصيب. لكن العقل الجمعي هنا يكون قابلا للتلقي تحت تأثير مخدر الانفعال المفرط. ومن ثم، ينتقل المتحدثون من الرؤى الخاصة إلى الاحتمالات المغلوطة المضللة. حينها يكون العقل الجمعي مستلما لكل ما يملى عليه من أفكار لأنه يعتقد خطأ أن السياسي هنا يفكر بضمير جمعي ولا يعلم أنه يريد أن يسوقه إلى أفكار سبق طهيها على نار فتنة مفتعلة. وحين يتناول المذيع خبيث الطوية موضوعا يحشد ملايين الأفراد خلف ستائره، تراه يبدأ بمخاطبة الفص الأيسر من الدماغ حتى يشغله تماما. ومن ثم، يقوم بتمرير فكرة خبيثة عن طريق الفص الأيمن فيهدم الفكرة من حيث يظن الناس أنه يريد بناءها. سأضرب لك مثالا هنا من واقع شاهدته حتى أضع الفكرة بين عينيك. كان مقدم البرنامج يتحدث عن استخدام العنف من قبل أفراد الجيش تجاه المتظاهرين، وكان الضيف ينفي بحرارة تلك الفكرة ويسوق الدلائل على بطلانها. في تلك اللحظة ينبري طاقم الإعداد بإظهار صورة لفتى يُضرب بهراوة أو بفتاة تُداس بحذاء. وهنا لا يبقى في عقل المشاهد إلا الصورة التي لا يخضعها العقل الصُوَري للتحليل المنطقي بل يقبلها على علاتها. لا أريد هنا أن أتهم أيا من الطرفين أو أن أسوق للآخر، ولا أدعى هنا العصمة من الوقوع في متاهات المؤامرات، لكنني أسوق هذا المثال من أجل التدليل على فكرة بعينها. أريد هنا أن أقول لشباب أسكره الغضب عن الرؤية الموضوعية للأشياء أنه ليس ضروريا أن يثور المرء كي يصبح مواطنا صالحا، ولا أن يتهم ويخوّن ويرفع عقيرته بهتاف يطالب بإسقاط كل حجر من أحجار بيت يستره كي يقال عنه بأنه يثأر لدماء الشهداء. وأقول للمخدوعين بالفضائيات المغرضة والأقلام المسمومة أنه ليس كل من يتكلم العربية صديقا، ولا كل من يقف إلى جوارك ذات ميدان رفيقا. وأقول لكل مفكر غيور، إياك أن تقع في فخ فتنة نصبه أعداؤنا بحرفية بالغة، وإياك أن تقع في فخ الكلمات، فلرب كلمة يقولها المرء في زمن الفتنة يلقي بها آلاف الشباب في أتون نار أعدت لإحراق مستقبلهم. وأحذر الجميع من أحرف ملغومة في جرائد أقلامها معروضة للبيع على كل الأرصفة. ألا فليُعمِل كل منا عقله كي نخرج من هذه الفتنة أقوى وكي تسلم البلاد من فتن لا نخرج من إحداها إلا لننزلق في قاع أخرى. وقانا الله وإياكم شر الفتن، آمين...