إن نجاح الثورات ونهوض الأمم يقتضي إلتحاماً بين شعب معبأ حول مشروع وطني طموح وملهم، وقيادة وطنية متجردة ومتواضعة ومتوافقة حكيمة حريصة على شعبها، تضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار. تلك شروط لا غنى عنها إذا أريد للشعب أن يصبر على آلام العلاج ويتحمل فاتورة التحرر والنهوض، وإذا أريد للبلاد أن تتصدى للأطماع والتعويق والمؤامرات. كادت تونس أن تستوفي تلك الشروط مرتين : يوم انتصار الثورة، ويوم نجاح الانتخابات .. ولكن الفرصتين ضاعتا بصورة غريبة ، ثم أتت بعد ذلك سنة هزيلة للنسيان، عناوينها الأبرز التخبط والمراوحة والمكابرة والمزايدة، ضاعت خلالها أهداف الثورة وهموم المواطن (أو أصبحت ديباجة خطابية ومادة للمزايدة والدعاية الانتخابية) في خضم صراع محموم وعبثي على السلطة بين أطراف منتشية وحالمة وأخرى مغتاظة ومتحاملة، جعجعة كثيرة من دون طحين، وسجالات سياسية وإعلامية تنمّ عن تنطّع وتفيْقُه ومراهقة سياسية، ولا تختلف كثيرا عن سجالات جماهير الملاعب، فتبخرت الأحلام والآمال والوعود الكبيرة، أو تقزّمت فأصبحت لا تتجاوز عودة الأمن والاستقرار. تتحدث اليوم كل الأحزاب للنهوض من سخط الازمة عن الحوار ومدى تمسكها به وعن التوافق كوسيلة للخروج إلى بر الأمان في ظل ربيع عربي لم يبق من شموعه سوى الشمعة التونسية. لكن أغلب هذه التصريحات لم تخرج في واقع الأمر من باب التصريحات الاستهلاكية التي تخفي بعض الحقائق السياسية، والحوار وقع تعليقه في ظل عدم التوافق على تحديد منصب رئيس الحكومة هذا المنصب الذي يتصارع عليه مجموعة من الساسة الشيوخ هم : 4 شخصيات في سباق على خلافة على العريض : أحمد المستيري 88عاما ، محمد الناصر 79 سنة ومصطفي كمال النابلي 65 سنة وجلول عياد 62 سنة ; للأسف الثورة التي قام بها الشباب هي اليوم كعكة في يد الكبار !. ما جرى بالأمس كان باهرًا، ولم نأخذ بعدُ مسافةً ممّا حصَل بالمعنى التاريخيّ، الثورة ليست "حدثًا" بل مسار. ونحن الآن نتحدّث عنها ونعيشها في الوقت نفسه. نحن بصدد إنجاز ما نطمح إليه، وبالتالي لا يمكن القولُ إنّ الثورة انتهت ; لكنّ اللافت في هذه الثورة أنّ مَنْ قام بها لم يصلْ إلى الحكم ، والغريب اليوم نتحدث عن رجال سياسة متقدمون جدا في العمر ومتمسكون جداً بالحكم. صحيح هؤلاء ذو تجارب وخدموا البلاد لكن من صلح بالأمس قد لايصلح لحاضرنا هؤلاء يربطون حاضرنا بماضي بعيد ، ماضي كانت فيه الخبزة بعشرين مليم اليوم الخبزة ب 230 مليم ! نحن يا أنتم تجاوزنا القرن العشرين وتجاوزتكم الأحداث ، أعتقد أنّنا في مرحلة مخاضٍ من الصعب فهمه. واضح أنّ هناك منطقًا قديمًا بصدد التلاشي، مقابل منطقٍ جديدٍ بصدد التشكّل; الفكرة الرئيسة التي أريد التحدّثَ عنها هي "منطقُ الجيل": فهذا الجيل، الذي أنجز الثورة، أمامه آفاقٌ واسعةٌ في رأيي للمسك بزمام الأمور ، إذا ليس منطقيًا أنّه مازال يَحْكمنا ويفكّر لنا جيلُ الستينيّات وأنّ مشكلة شباب تونس ليست مع بن عليّ والطرابلسيّة فقط، بل مع كلّ النخبة القديمة كذلك. تصوّروا أنّ هناك مَن اشتغل مع بورڨيبة وبن علي ومازال يروم حكمنا من جديد! ولذا أنا استحضر ما حصل في ثورة 68 للشباب الفرنسيّ، وقتما كان للفكر شأنٌ كبيرحينها، قام الشبابُ بطرد أساتذتهم في الجامعة وقالوا إنّ المناهج والأفكار القديمة لا يمكن أن تَصْلح للمستقبل. فتأسّستْ تيّاراتٌ فكريّةٌ سُميّتْ "تيّارات ما بعد 68. إذا من غير المعقول أن يواصل قيادتنا سبعينيّون! هؤلاء يفكّرون لمستقبلٍ لن يعيشوه! هذه فضيحة! فحتّى الفكر السياسيّ الذي يعتمدونه لا يمكنه تفسيرُ الثورة التي حدَثت. هذه فضيحة! فحتّى الفكر السياسيّ الذي يعتمدونه لا يمكنه تفسيرُ الثورة التي حدَثت.