من الصعب بل من المستحيل أن نمسك بعجلة الزمن وأن نوقف حركة التاريخ لأنها أشياء يسيرها خالق كل شيء سبحانه وتعالي وهي خارج حدود طاقة البشر.. لم يستطع الإنسان رغم كل مظاهر التقدم التي حققها في العصر الحديث أن يعيد الأحداث إلي نقطة البداية.. بقدر ما للتاريخ من قدسية في أعماق البشر كدروس مستفادة بقدر ما له من جبروت في فرض أحداثه التي لا نملك حق تغييرها أو حتي مجرد التفكير في استعادتها.. من هنا فإن البعض منا الآن لا يعترف بهذه الحقائق الثابتة فيحاول أن يؤخر عجلة الزمن أو يصنع تاريخا لم يعد من حقه وربما هناك من يفكر في طمس حقائق هذا التاريخ وهناك عادة فرعونية قديمة بين الحكام أنهم اعتادوا اسرقة أدوار بعضهم فكان منهم من شطب تاريخ من جاءوا قبله ليكتب أسمه عليه في عمليات تزوير مازالت الآثار الفرعونية شاهدة عليها.. تبدو أمامي الآن صورة صراع خفي بين أجيال مصر متمثلة في شبابها الثائر وما بقي من الأجيال القديمة التي لا تريد أن تترك مواقعها ولا تعترف بأن من واجبها الآن أن تسلم الراية لأجيال أحق بها.. لقد احتدت صورة هذا الصراع بعد ثورة يناير ويبدوا أن البعض لم يصل إلي القناعة الكافية بأن ما حدث كان ثورة حتي وان كانت بلا قيادة وان الذي تصدر مشهد هذا الحدث الكبير هم شباب هذا الوطن.. وربما كان السبب في ذلك أن الأجيال التي أمسكت بزمام الأمور سنوات طويلة لم يكن لديها استعداد لأن تترك مواقعها ومصالحها بل إنها كانت تري في الأجيال الجديدة صورة مغايرة تماما لما جاءت به الثورة في مفاجآتها التي لم تخطر علي بال القائمين علي شئون الدولة.. ان النظام السابق نجح في تشكيل طبقة من أصحاب المصالح كان لديها استعداد لأن تدمر كل شيء لتحافظ علي وجودها.. ولاشك أن هذه الطبقة جمعت من المال والنفوذ والسلطان ما جعلها تمثل قوة حقيقية في المجتمع بل إنها خرجت أجيالا من المنتفعين اخترقت كل مؤسسات المجتمع وفرضت سلطانها علي الجميع.. لابد أن نعترف بأننا أمام أجيال لا تريد أن تترك مواقعها.. وأمام أجيال أخري تري أن من حقها أن تستبدل المواقع.. وأمامنا عشرات الشواهد التي تؤكد حقيقة هذا الصراع الذي لم يعد خافيا ولكنه ظهر واضحا علي السطح. حين اختلفت القوي السياسية بعد ثورة يناير كان الفصيل الوحيد الذي عصفت به الأحداث هم شباب الثورة باستثناء مجموعة المنتفعين الذين تركوا الميدان وانقضوا علي جزء من الغنيمة في مجلس الشعب أو الشوري أو الفضائيات أو وجدوا لهم نصيبا في سلطة القرار, أما بقية الشباب فقد دفعوا ثمن الثورة ولم يحصدوا شيئا من ثمارها.. من يراجع أسماء وأعمار المرشحين لمنصب الرئاسة سوف يكتشف أن أغلبهم من الأجيال القديمة عمرا وخبرة وفكرا وأن الشباب غائب تماما عن خريطة مستقبل هذا الوطن.. في مجلسي الشعب والشوري وأمام هذه المواكب الليبرالية والسلفية والاخوانية أكاد لا أجد عشرة شباب وسط هذا الحشد الهائل من الأعضاء.. وهذه مغالطة كبيرة أن نتحدث عن برلمان الثورة وهو بدون شبابها.. مازالت مكاتب المسئولين ابتداء بالسادة الوزراء ورؤساء المؤسسات تضج بمئات بل آلاف المستشارين الذين خرجوا إلي المعاش منذ سنوات ومازالت تدفع لهم الدولة ملايين الجنيهات وهم بلا عمل في حين يجلس ملايين الشباب علي المقاهي.. إذا كانت نسبة الشباب في تعداد السكان في مصر تزيد علي60% فإن نسبتهم في دائرة القرار لا تتجاوز ربع في المائة وهذا إجحاف شديد وظلم بين.. لو راجعنا نسبة مشاركة الشباب في مواكب العمل والمسئولية في الخارج سوف نجد أن متوسط أعمار المسئولين في الدول الأجنبية يتراوح بين35 و50 سنة بينمايتراوح عندنا بين65 و80 سنة.. وإذا كان رئيسنا السابق قد بقي في السلطة ثلاثين عاما حتي تجاوز الثمانين, فقد شهدت أمريكا أكبر دول العالم خمس رؤساء في هذه الفترة وهم ريجان وبوش الأب وكلينتون وبوش الابن.. وأوباما, أي أن رئيسنا أفني في حكمه خمسة رؤساء مرة واحدة في أكبر دولة في العالم بينما أفني ثلاثة رؤساء في فرنسا هم ميتران وشيراك وساركوزي وأفني8 رؤساء وزارات في إسرائيل هم بيجين وشامير ورابين وبيريز وشارون أوالمرت وباراك ونيتانياهو.. إن الغريب في الأمر أن يكون الصراع علي المستقبل الآن وبعد قيام ثورة قادها الشباب بين أجيال قديمة مازالت تصر علي البقاء في دائرة الضوء وان تسعي لصياغة مستقبل يتناسب مع رؤاها وأفكارها في عصر يتغير كل دقيقة وليس كل يوم.. كنت أتمني لو أن خريطة المرشحين للرئاسة قد شملت عددا من الشباب ومازلت أعتقد أن الفرصة مازالت متاحة لكي يضع كل مرشح من الكبار نائبا له من شباب هذا الوطن.. إن في ذلك ضمان لتغيير الدماء والدفع بأجيال جديدة تشارك بفكرها ورؤاها في بناء مستقبل هذا الوطن.. حتي الآن أستطيع أن أقول وأنا مرتاح الضمير إن شباب مصر هو الذي دفع وحده ثمن الثورة بينما هناك أجيال أخري سرقت ثمارها ومن يشاهد الوجوه في مجلسي الشعب والشوري ومواكب الإعلام المضلل ومؤسسات الدولة بكل ألوانها سوف يكتشف حقيقة مذهلة أن الثوار في القبورأو السجون ولصوص الثورة في أكبر المواقع.. سوف يكون خطأ جسيم أن تحدث فرقة بين أجيال مصر في هذا التوقيت بالذات خاصة أننا أمام مواكب من الشباب الواعد لم تحصل علي فرصتها في شيء حتي الآن.. حيث لا عمل.. ولا دخل.. ولا أحلام ولا مشاركة في مستقبل.. أنا لا أنكر ولا أستطيع دور الأجيال القديمة من الآباء ولا أنفي حقهم في تقديم خبراتهم وتجاربهم ولكنني لا أقبل أن يسيطروا سيطرة كاملة علي المشهد ثلاثين عاما ورغم قيام ثورة كان ينبغي أن تبدأ بها مصر مستقبلا جديدا.. لا أريد أن يتكرر مع جيل ثورة يناير ما حدث مع جيل نكسة67 حينما خرجنا في مظاهرات صاخبة ضد الهزيمة والمحاكمات الصورية للمسئولين عنها في عام68, يومها حاصرتنا قوات الأمن المركزي في أول ظهور لها في جامعة القاهرة وانتهي كل شيء علي يد مجموعة ضئيلة من الشباب اشتراهم النظام بينما دخلت مواكب الشباب الحائر في دوامة من اليأس والإحباط حتي جاء نصر أكتوبر ولم يحصل هذا الجيل علي حقه في أي فترة من الفترات, فقد ظلمته النكسة بالهزيمة وظلمه نصر أكتوبر بسلام عاجز ورخاء كاذب تأجل زمنا طويلا وسقط هذا الجيل من حسابات مصر وهرب بعضه إلي الدول العربية وأوروبا والغرب وبقي من بقي يعاني كل أمراض الاغتراب والإحباط.. لا أتمني أن يسقط جيل ثورة يناير في دوامة الإحباط التي اجتاحت جيلنا في عام68 وعندي يقين أن ذلك لن يحدث لأن الفارق بين الأجيال أصبح كبيرا وعميقا ولأن ثورة يناير استطاعت أن تحقق نتائج أكبر وأخطر بينما انتهي الحال بأحداث الطلبة في عام68 بسكون العاصفة.. إن الفرق كبير جدا لأن ثورة يناير مازالت قابلة للاشتعال ولأنها ثورة شعب كامل بينما كانت مظاهرات الطلبة في عام68 مجرد احتجاج يرفض الهزيمة إنها الفرق بين بركان خمد وآخر مازال مشتعلا وإن كان هناك عامل مشترك أن أنانية الأجيال في مظاهرات النكسة هي نفسها أنانية الأجيال في ثورة يناير.. إن اغرب ما في هذه الصورة المقلوبة أن الذين يتصدرون المشهد الآن من الأجيال القديمة ربما كان منهم من شارك في أحداث مظاهرات النكسة منذ أربعين عاما مضت وهو يحاول الآن أن يلحق بثوار يناير بأثر رجعي وقد نسي هؤلاء أن القطار فاتهم وأن الزمن لا يرجع للوراء وان الشباب أحق بأن يصنع مستقبله.. لا أتمني أن تتسع الفجوة بين أجيال مصر في هذا الوقت العصيب ولا أتمني أن نسرق الأدوار من بعضنا كما كان يفعل قدماء المصريين ولهذا فإن ما يدعو للحزن والألم أن تصدر أحكام قضائية بتبرئة من قتلوا الثوار بينما تصدر أحكام سريعة بسجن الثوار أنفسهم ولولا شيء من حياء لو جدنا أحكاما علي الشهداء في قبورهم.. من الخطأ أن يتصور البعض أن إقصاء الشباب أو محاكمتهم عسكريا أو مدنيا يمكن أن يكون نهاية المطاف لأن الثورة لم تكن ثورة الشباب وحده ولكنها كانت ثورة كل المصريين وإذا لم يحصل المواطن المصري علي حقه في حياة كريمة وحرية حقيقية ووطن يوزع خيراته علي الجميع فسوف تبقي كل الخيارات مطروحة.. مازالت الفرصة أمامنا أن نعيد شبابنا إلي المشهد إذا كنا جادين في صياغة مستقبل جديد أن هذه الأجيال بحكم العمر والزمن والتاريخ هي صاحبة الحق في المستقبل وإذا كان البعض قد نجح في أن يتحايل علي الشباب ويسرق ثورته, فإنه من الصعب بل من المستحيل أن يتحايل علي حقائق الزمن والتاريخ. .. ويبقي الشعر في الركن يبدو وجه أمي لا أراه لأنه سكن الجوانح من سنين فالعين إن غفلت قليلا لا تري لكن من سكن الجوانح لا يغيب وإن تواري.. مثل كل الغائبين يبدو أمامي وجه أمي كلما اشتدت رياح الحزن.. وارتعد الجبين الناس ترحل في العيون وتختفي وتصير حزنا في الضلوع ورجفة في القلب تخفق.. كل حين لكنها أمي يمر العمر أسكنها.. وتسكنني وتبدو كالظلال تطوف خافتة علي القلب الحزين منذ انشطرنا والمدي حولي يضيق وكل شيء بعدها.. عمر ضنين صارت مع الأيام طيفا لا يغيب.. ولا يبين طيفا نسميه الحنين.. في الركن يبدو وجه أمي حين ينتصف النهار.. وتستريح الشمس وتغيب الظلال شيء يؤرقني كثيرا كيف الحياة تصير بعد مواكب الفوضي زوالا في زوال في أي وقت أو زمان سوف تنسحب الرؤي تكسو الوجوه تلال صمت أو رمال في أي وقت أو زمان سوف نختتم الرواية.. عاجزين عن السؤال واستسلم الجسد الهزيل.. تكسرت فيه النصال علي النصال هدأ السحاب ونام أطيافا مبعثرة علي قمم الجبال سكن البريق وغاب سحر الضوء وانطفأ الجمال حتي الحنان يصير تذكارا ويغدو الشوق سرا لا يقال في الركن يبدو وجه أمي ربما غابت.. ولكني أراها كلما جاء المساء تداعب الأطفال فنجان قهوتها يحدق في المكان إن جاء زوار لنا يتساءل المسكين أين حدائق الذكري وينبوع الحنان أين التي ملكت عروش الأرض من زمن بلا سلطان أين التي دخلت قلوب الناس أفواجا بلا استئذان أين التي رسمت لهذا الكون صورته في أجمل الألوان ويصافح الفنجان كل الزائرين فإن بدا طيف لها يتعثر المسكين في ألم ويسقط باكيا من حزنه يتكسر الفنجان من يوم أن رحلت وصورتها علي الجدران تبدو أمامي حين تشتد الهموم وتعصف الأحزان أو كلما هلت صلاة الفجر في رمضان كل الذي في الكون يحمل سرها وكأنها قبس من الرحمن لم تعرف الخط الجميل ولم تسافر في بحور الحرف لم تعرف صهيل الموج والشطآن لكنها عرفت بحار النور والإيمان أمية.. كتبت علي وجهي سطور الحب من زمن وذابت في حمي القرآن في الأفق يبدو وجه أمي كلما انطلق المؤذن بالأذان كم كنت المحها إذا اجتمعت علي رأسي حشود الظلم والطغيان كانت تلم شتات أيامي إذا التفت علي عنقي حبال اليأس والأحزان تمتد لي يدها بطول الأرض.. تنقذني من الطوفان وتصيح يا الله أنت الحافظ الباقي وكل الخلق ياربي إلي النسيان من قصيدة طيف نسميه الحنين سنة2009 [email protected] المزيد من مقالات فاروق جويدة