نكتب إليكم من قلب الكارثة: تفاصيل عقد الحزن الدائم في مندرة أسيوط! سرادقات عزاء في البيوت.. مآتم في القلوب.. حزن طويل وعميق ولا يعلم إلا الله مداه.. رايات سوداء فوق أرض مصر منذ لحظة الكارثة.. القطار كالعادة حصد الأرواح.. هكذا ننام ونصحو علي هذه الفاجعة.. يبدو أننا أصبحنا معها أصدقاء!.. بحر يبتلع عبارة أو أتوبيس يسقط من فوق الكوبري.. حريق يلتهم منشأة.. عمارة تنهار .. مباراة كرة يسقط فيها شهداء.. ويا لها من أعصاب تحتمل قائمة المصائب التي لا تنتهي.. ويا له من برود مسئوليه يعيشون في واد بينما الشعب والضحايا في واد آخر! هكذا كان حديث النفس ونحن في الطريق إلي أسيوط يوم الحادث المضجع.. كنا وزميلنا المصور والسائق داخل سرادق صغير بسيارة أخبار الحوادث.. لا نتكلم فلم يعد للكلام معني.. ولا فائدة.. ولا مستمعين.. لكن عيوننا كانت تترجم الحزن الساكن في القلوب.. نظرات متبادلة مشحونة بالألم والغضب ووجع الضمير.. كل واحد فينا وضع نفسه مكان أب ودع ابنه في الصباح ثم تسلمه جثة بعد سويعات.. أم طبعت قبلة علي خد طفلتها ثم شاهدتها اشلاء فوق القضبان.. ياربي.. كيف نعمل وسط هذه الكارثة؟!.. كيف نصور الأشخاص والقضبان والقطار والمزلقان ومن الذي سيصور القلوب التي انخلعت من مكانها؟!.. لكنها مهنة المتاعب.. قدر الصحافة أن تكون بين الجراح والدموع والجثث والمكلومين.. قدر الصحفي أن ينسي متاعبه وآلاف الكيلو مترات التي قطعها من أجل أن ينقل القارئ معه إلي مسرح الاحداث ثم يكون حزنه حزنان.. حزن كواحد من أبناء الشعب وحزن كصحفي يشاهد الآلام بعين القارئ!! كنا هناك بعد سويعات قليلة.. توارت القاهرة وقفزت المندرة الي قلب الأضواء.. المندرة هذه القرية الصغيرة بسكانها البسطاء وأرضها الملطخة بدماء الضحايا صارت خبرا تتناقله وكالات الأنباء وتنقله لجميع بقاع العالم!.. هنا.. هدوء قاتل.. ولا صوت يعلو علي صوت القرآن الكريم أو صراخ أم لم تستوعب الصدمة المروعة! حققنا الحادث من جميع الزوايا.. نحن لسنا قضاة.. لكننا ننقل الحقائق التي شاهدناها بعيون يقظة وضمير محايد.. دخلنا المستشفيات.. جلسنا مع أهالي الضحايا.. قرأنا المحاضر.. وذهبنا إلي منزل المتهم الذي صار اسمه علي كل لسان بطول مصر وعرضها وهو عامل مزلقان الموت.. تابعنا التحقيقات لحظة بلحظة.. وكان هذا التحقيق الميداني الذي كتبناه بحزن لم يبرح القلوب ودموع لم تجف في العيون.. وعدنا إلي القاهرة.. لكن بقيت القرية الصغيرة متشحة بالسواد.. ومليئة بالذكريات.. ومنكسة الرؤوس.. حتي الأشجار والنخيل جفت أغصانها وتساقطت أوراقها كأنها هي الأخري تعلن الحداد؟!