قبل شهور من غزو أمريكا واحتلالها للعراق، كتبت أن صدام حسين أيا كان الرأي فيه قد يكون آخر رئيس لدولة كان اسمها »العراق»، وقد تحققت النبوءة السوداء، وليتها ما تحققت. وبرغم أن صدام كان ديكتاتورا دمويا بحسب التقاليد العراقية، فإن مشهد شنقه بدا كأنه شنق للعراق نفسه، فلم يفزع الرجل لقدر الشنق، ولا لخسة الأمريكيين الذين سلموه لخصومه، وصار استقباله الأسطوري الشجاع لحبل المشنقة حدثا يروي علي مر الأجيال، ومات وهو يحتضن مصحفه، ولسانه يهتف لفلسطينوالعراق، وكأنه كان يدرك أن العراق يذهب كما ذهبت فلسطين، وأنه قد يمضي وقت طويل آخر، وتأتي أجيال مقبلة، قد يكون بوسعها استعادة العراق الذي كنا نعرفه. كان العراق دائما تعبيرا جغرافيا لا سياسيا، ولم يصبح دولة بصورتها التي كانت، إلا قبل أقل من مئة سنة، وفي سياق اتفاق »سايكس بيكو» ومضاعفاته، والتي انتهت إلي جلب البريطانيين لملك من نسل الشريف حسين، بنوا له قصرا في بغداد، وتحمس له الشيعة في الجنوب، كما تحمس السنة والأكراد، ولم يكن مقام الملوك طيبا في العراق، ولا مقام الرؤساء الذين توالوا بعد جلاء الاحتلال البريطاني وإنهاء الملكية، فلم يمت حاكم في العراق الحديث »ميتة ربنا» علي حد التعبير المجازي، بل جري قتل الملوك والرؤساء واحدا إثر آخر، وبدت القصة كلها كأنها قدر إغريقي مأساوي، وكأن الوصول للحكم، كان تمهيدا لاندفاع دموي إلي القبر، وكأن كأس السلطة حين تفيض، تتحول من تلقاء ذاتها إلي كأس الموت، وكأنه القدر الذي لا يفلت منه أحد، وهو مابدا ظاهرا في دراما صدام، فقد كان الرجل محكوما عليه بالشنق، قبل أن يصل إلي السلطة في أواسط 1968، وظل هاربا لسنوات طويلة من المستعدين لشنقه، وإلي أن تمكن هو من الفوز بالسبق، ونصب المشانق لخصومه، وحكم العراق بقبضة حديد من وراء ستار أحمد حسن البكر، ثم بشخصه المباشر كرئيس للعراق، وعلي مدي ثلاثة عقود ونصف، صعد فيها بالعراق إلي ذروة التأثير في محيطه، ثم جعله عرضة لاستنزاف وحصار دام إلي ساعة الغزو والاحتلال وتقويض نظام صدام، وبدت النهاية شديدة القسوة، فلم يفلت أحد من نسل صدام حسين بحياته، ربما باستثناء ابنته »رغد»، واستقبلوا موتهم جميعا كالأبطال التراجيديين، ودون أدني رغبة في الهروب من قدر الرصاص إلي آخر طلقة. كانت سيرة الدم تواصل أشواطها إلي النهاية، وكانت »دموية» صدام من العلامات الكبري لعراقيته، فقد كان العراق دائما حقلا تزهر فيه الدماء، في تواريخ العصورالوسطي، في »مقتلة الإمام الحسين» وقت حكم الأمويين، وفي زمن قصور الخلافة العباسية، وفي عصره الحديث السياسي بالذات، وبدت ثأرات التاريخ كلها، كأنها اجتمعت في العراق، وكان تكوينه الحديث أشبه بلقاء الخناجر، وأقرب إلي »بواقي الفساتين»، فقد وهب العراق بترولا وماء كما لم يجتمع لبلد عربي آخر، لكن تكوينه السكاني بدا كالقنابل الموقوتة، وبدا التنوع فيه علي درجة عالية من الثراء، كما من الخطر الكامن في »بواقي الفساتين»، ففي رأسه، تمدد الفستان الكردي عابرا أصوله ومركزه في الأراضي التركية، وفي جنوبه ووسطه، تمدد الفستان الشيعي »الصفوي» عابرا من مركزه وأصوله في الأراضي الإيرانية، وفي غربه بالذات، تمدد الفستان السني عابرا أصوله ومراكزه في السعودية وسوريا والأردن، أضف إلي ذلك ما شئت من أقوام وطوائف التركمان والأيزيديين والآشوريين وعبدة الرب وعبدة النار، وكان صهر كل هؤلاء في سبيكة وطنية جامعة، يحتاج إلي مزيج فريد من ديمقراطية التنوع وقوة المركز الحاكم، لكن صدام كان مثالا للإيمان بالقوة وحدها، ورفع درجة حرارة الصهر بالقوة إلي ما فوق نقطة الغليان، كان يؤمن أن العراق لا يساس بغير القوة القاهرة، وأذكر أن عددا من رفاقه القوميين غير العراقيين طلبوا منه تخفيف القبضة بعد فرض حصار التسعينيات، والسماح بقدر محسوب ومتدرج من الحريات العامة، وكان رد صدام لافتا، قالها ببساطة »أنتم لا تفهمون العراق»، وكان محقا بصورة جزئية، فقد كانت تكلفة الدم التي دفعها العراقيون تحت حكمه القاسي، تكلفة رمزية، إذا ما قيست بما جري من أهوال بعد شنقه وذهابه إلي ربه، كان الشاعر العراقي الشهير بدر شاكر السياب يقول » ما مر عام والعراق ليس فيه جوع»، كان السياب يساريا، ومات بداء السل، وكانت قصائده الحزينة تتوالي في زمن الاستعمار والملكية، لكن العراق تحول وملك ثرواته واغتني في زمن صدام، ولم يكن في العراق جوع، بل كان دم ومشانق ورصاص، ثم استدار الزمن إلي هلاك جماعي بعد صدام، ولم تعد تمر دقيقة لا عام، إلا والعراق فيه دم وأشلاء ومجازر، وفيه جوع وبؤس وعوز وتشرد بأكثر كثيرا مما شكا منه بدر شاكر السياب، وفيه فساد ونهب لثرواته التي لا تحصي، ولكن ليس فيه شئ من طعم العراق وطن الشعراء، ولا من فتوته وجبروته كأقوي بلد عربي كان في المشرق. نعم، لم يعد من العراق سوي لافتة، وعلم »الله أكبر» الموروث عن صدام، ولم نعد نسمع من العراق غير أنباء النهب والقتل اليومي بالمئات والآلاف، وثرثرات لصوص بغداد الجدد في حكومات الدمي وبرلمان المهازل، والتقسيم الفعلي علي الأرض بحدود الدم، فلم يعد من »العراق» سوي اسمه الطافح بالشروخ، ولن يمضي وقت طويل، حتي يصبح العراق دولا، وليس دولة واحدة كما كان إلي وقت قريب، ولا أحد من العرب يبكي العراق، أو يمد اليد للمساعدة في ترميمه، فكلنا في الهم نفسه، نكتفي بنعي العراق، كما كنا ننعي دولة »الأندلس» (!).