»كل ده كان ليه؟!» لا تبدو أغنية جميلة لعبدالوهاب كما كانت، ولا سؤال لقاضي الحشيش وحده، ولكنها تتحول إلي عنوان لحزب كبير يملك كل أدوات التأثير. القاضي المتهم في قضية نقل الحشيش بين سيناء وغرب القناة أحيل للمحاكمة مع شركائه في الجريمة. نترك الحكم للقضاء ونتوقف عند ملاحظة أولي وهي أنه عند ضبط القضية توقعنا أن تكون المخدرات مهربة من سيناء إلي غرب القناة.. فإذا بنا أمام العكس، وإذا بالحشيش قادم في سيارة القاضي من غرب القناة إلي سيناء! لابد أن هناك تفسيراً لذلك. فإما أن الضربات الموجهة لخلايا الإرهاب في سيناء العزيزة قد طالت أيضا مهربي المخدرات وأثرت علي من كانوا يقومون بزراعته بعيدا عن عيون الأمن.. وإما أن »البضاعة» غرب القناة أرخص وأنها بسبب أو آخر قد أصبح فيها وفرة تجعل تجار »الصنف» يتجهون به إلي سيناء!. وقد يكون الأمران معاً، ولا شك أن أجهزة الأمن تتابع وترصد، خاصة بعد أن تشابكت المصالح بين عصابات الإرهاب وعصابات تجارة المخدرات لحد كبير! ملاحظة ثانية.. وهي أنه بعد إحالة القضية لمحكمة الجنايات، صدر قرار بالتحفظ علي أموال قاضي الحشيش، فإذا به يصرخ: كل ده كان ليه؟!.. طبعا لم يكن يردد أغنية عبدالوهاب الشهيرة، ولكنه كان يستنكر أن يتم التحفظ علي أمواله مقابل هذه الجريمة التي يراها تافهة! أو لأنه كما قال: هو أنا أول واحد يغلط؟! هذه هي المصيبة الأكبر في القضية. أن يكون هذا هو تفكير رجل كان يجلس علي منصة القضاء. هي حالة شاذة بالتأكيد بين قضاتنا الأجلاء الذين لا يقبلون علي الإطلاق أن يكون بينهم من تكون هناك شبهة »مجرد شبهة» في عدم جدارته بالانتساب لقضاء مصر العظيم. قد تكون حالة شاذة في عالم القضاء، وهي كذلك بالتأكيد. لكنها للأسف الشديد ليست كذلك بين الكثيرين في هذا الزمن الذي تنتشر فيه ظاهرة استباحة كل شيء، مادمت تملك السلطة، وما دمت تستطيع إذا سقطت أن تنجو من عقاب القانون، أو تطلب »التصالح»! فإذا لم يحدث كان الصراخ: كل ده كان ليه؟! سنوات الفساد أورثتنا هذه الأوضاع الكارثية في الاقتصاد والتعليم والصحة، ولكنها أورثتنا الأخطر وهو ما يمكن تسميته ثقافة تبرير الفساد ومحاولة إجبار المجتمع علي »التصالح» معه! يتم ضبط مسئول كبير بإحدي المؤسسات وهو يتلقي الرشاوي ليخالف القانون، فلا ينكر الاتهام، ولا يخشي من العار الذي سيلحق به.. بل يصرخ كما صرخ قاضي الحشيش: كل ده كان ليه؟!.. هو أنا أول واحد يغلط؟! ويضع واحد من حزب الفساد يده علي أملاك الدولة، ويحقق مئات الملايين من المال الحرام، فإذا انتبهت الدولة وطبقت القانون، واستعادت المال المنهوب. صرخ صاحبنا بكل جرأة: كل ده كان ليه؟!.. هو أنا أول واحد يسرق؟! ويتهرب »الكبار» من الضرائب، ويتحايلون علي القانون، ويستخدمون كل طرق الفساد والإفساد للإفلات بجرائمهم وملياراتهم.. فإذا صادفوا شريفاً يكشف الفساد، ويطالبهم بحق الدولة، صرخوا محتجين: كل ده كان ليه؟! وهل نحن أول من تهرب، أو آخر من نهب.. وأفلت من العقاب؟! والأمثلة كثيرة.. و»كل ده كان ليه؟!» لا تبدو أغنية جميلة لعبدالوهاب كما كانت، ولا سؤال لقاضي الحشيش وحده، ولكنها تتحول إلي عنوان لحزب كبير يملك كل أدوات التأثير.. بدءا من المال »الحلال أو الحرام أو المشبوه» ومروراً بسطوة إعلامية تتوسع يوماً بعد يوم، وانتهاء بنفوذ سياسي نبهنا إليه كثيرا حين تم استخدام المال الحرام والمشبوه لكي يشتري مقاعد في مجلس النواب! الآن.. أصبح لدينا حزب »كل ده كان ليه؟!».. يردد أحيانا ما قاله قاضي الحشيش، هو أنا أول واحد غلط؟!، ويطالب علي الدوام بأن يكون »التصالح» بلا ضوابط ولا التزام بالقانون أو احترام للثورة وشهدائها.. هو الطريق الذي تسير فيه البلاد، دون وعي بأن التصالح مع الفساد، هو أقصر الطرق للتصالح مع الإرهاب، وأن التهاون في القصاص من جراح أصابت الوطن من حزب الفساد، يعود للتهاون في القصاص من دماء طاهرة لشهداء دفعوا أرواحهم لإنقاذ الوطن! لم يكن قاضي الحشيش وحده هو من يسأل: كل ده كان ليه؟!، خوفا علي المال الحرام الذي تم التحفظ عليه، هناك حزب بأكمله له قياداته ونوابه وأبواقه السياسية والإعلامية التي تردد: كل ده كان ليه؟! تروج للتصالح مع الفساد، والتسامح مع الجريمة، ولعلها لا تطالب بمحاسبة كل من »تجرأ» بعد ثورتي يناير ويونيو علي أن يطالب بمحاكمة الفساد واستئصال الإرهاب واستعادة كل حقوق الوطن المنهوب، والمواطن الذي لم يطلب إلا العدل والحرية وكرامة الإنسان! كانت أغنية لنجاة! وبعيداً عن الفساد والحشيش.. دعونا نعود إلي الجميل في رائعة عبدالوهاب »كل ده كان ليه» والتي كانت آخر أغنية عاطفية غناها علي المسرح. كانت قد مرت سنوات طويلة علي إحياء عبدالوهاب لحفلات غنائية حية، كان قد اكتفي بالإذاعة والسينما، ثم بالإذاعة فقط بعد أن أنهي تواجده السينمائي بفيلم »لست ملاكاً» مع استثناءات قليلة في لقطات قصيرة ما حدث في »غزل البنات». لكن وفي أعقاب محاولة »الإخوان» اغتيال جمال عبدالناصر عام 1954، دعي الموسيقار الكبير لإحياء حفل بنادي الضباط بالزمالك، وكان قد أعد أغنية وطنية في هذه المناسبة، وأراد أن يستكمل تواجده بأغنية عاطفية، ولم يكن لديه أغنية جاهزة، وكان الوقت لا يسمح بإعداد أغنية جديدة مع »وسوسة» عبدالوهاب، والتزامه بالإعداد الجيد والبروفات المتعددة للفرقة الموسيقية حتي يبدو العمل في أبهي صورة. وكان عبدالحليم حافظ في بدايات علاقته مع الموسيقار الكبير.. وعندما شاهد حيرة عبدالوهاب كان هو الذي اقترح علي ان يغني »كل ده كان ليه؟!» وهو ما استجاب له عبدالوهاب بعد تردد معتاد ولكن كيف جاء اقتراح عبدالحليم؟ ومن اين اتي ب »كل ده كان ليه؟!» الحقيقة ان الاغنية كانت لحنا لعبدالوهاب اعده قبل شهور وغنته نجاة الصغيرة التي كان نجمها قد بدأ يبزغ، لاذاعة دمشق.. وكانت مصر تدعم هذه الاذاعة في هذا الوقت لتقادم الدعاية المضادة التي كانت تتم من خلال اذاعة بغداد في ظل سطوة نوري السعيد علي سياسة العراق الذي كان يقود »او يستخدم» في معركة الاحلاف ضد سياسة مصر الرافضة للاحلاف الاجنبية والداعية للعروبة ولطرد الاستعمار الاجنبي من كل الارض العربية. كان الجانب الفني احدي ادوات المعركة.. وكانت اذاعة دمشق تحاول التواجد في صف مصر والعروبة، وادي الفنانون المصريون دورهم في دعم اذاعة دمشق كما كانوا يؤدونه في دعم ثورة يوليو. كان المطربون والمطربات من مصر ضيوفا دائمين علي اذاعة دمشق وتم تسجيل العديد من الاغنيات لنجوم الطرب من مصر ومن بين تلك الاغنيات في هذه الفترة كانت »كل ده كان ليه؟!» التي لحنها عبدالوهاب للمطربة التي كانت تشق طريقها للنجاح والنجومية نجاة الصغيرة. حققت الاغنية التواجد، ولكنها لم تحقق النجاح الكبير، خاصة ان اذاعة دمشق في ذلك الوقت لم تكن تصل للقاهرة.. ومن هنا كان اقتراح »حليم» واستجابة »عبدالوهاب» الذي استجمع كل قواه ليقدم هذا الاداء الجميل للاغنية علي المسرح.. بعد ان قدم قبلها انشودته الوطنية الرائعة »والتي لا اعرف لماذا لا تذاع علي موجات الاذاعة المصرية» وهي انشودة »تسلم يا غالي» التي كتبها عبدالمنعم السباعي ليرد علي محاولة »الاخوان» اغتيال عبدالناصر بأن »الدين هداية حب ووداد لا فيه جناية ولا فيه فساد» وبالطبع.. لم يكن في ظن عبدالوهاب ولا كاتب الاغنية مأمون الشناوي ولا احد من الذين كانوا يشاهدون عبدالوهاب في آخر »وصلاته» العاطفية علي المسرح في ذلك اليوم، انه بعد ستين عاما او اكثر سيقف قاض مرتشي، او رجل اعمال فاسد ليقول بعد ان سيتم ضبطه أو احالته للمحاكمة »كل ده كان ليه؟!» كأنهم يريدون ان يفسدوا علينا كل شيء!! وكأنهم يعاقبوننا بأن يجعلونا نسمع اغنية لعبدالوهاب.. فنتذكر الفساد والحشيش والارهاب الذي كانت مصر تحتفل بنجاة زعيمها من محاولة الاغتيال التي قام بها الاخوان، وكان الفن كعادته احد اسلحتها في مقاومة هذا العدوان الآثم علي صحيح الدين وعلي سلامة الوطن. في حفل واحد كان عبدالوهاب يغني للحب والحياة في »كل ده كان ليه» وكان يحتفي بنجاة عبدالناصر من محاولة الاخوان اغتياله باغنية »تسلم يا غالي» هكذا كان الامر دائما في مصر تدوس علي الارهاب بأقدامها، وتحتفي دائما بالحياة، وتسعي ورغم كل الصعاب والتحديات، لكي تبني وتتقدم. من دفتر الذكريات لم اكن قد قررت السفر بعد، حين استدعاني رئيس التحرير يومها كاتبنا العظيم الراحل احسان عبدالقدوس، كنت قريبا منه منذ انتقل الي »أخبار اليوم» قادما من مؤسسته العريقة روزاليوسف.. لم يكن احسان صحفيا فذا ورائدا من رواد القصة والرواية الحديثتين.. بل كان - قبل ذلك كله - انسانا رائعا وراعيا للمواهب وقائدا يعرف كيف يفتح الابواب امام الشباب ليملأوا الدنيا بإبداعهم الجميل. كنت اعرف انه يعارض سفري للعمل بالخارج، وكان يعرف انني سبق ان رفضت عدة عروض مغرية، بدأ يناقشني في العرض الجديد، قلت انها دعوة للزيارة فقط، ورد بأن دعوة لمدة شهر تعني الرغبة في امتدادها الي علاقة عمل اطول. بعد فترة صمت قال احسان رحمه الله: اعلم أنك تحملت الكثير من مضايقات فلان »مشيرا الي قيادة ادارية كبيرة بالمؤسسة في ذلك الوقت» وتعرف انني ضد كل ما يفعل، انا لا اريدك ان تسافر لمصلحتك ولمصلحة اخبار اليوم» ايضا لكن اذا قررت السفر فليكن لفترة قصيرة حتي تتغير الاوضاع.. وسيحدث ذلك قريبا. ثم اخرج احسان ورقة صغيرة وهو يقول لي: تعال نحسب ما تحتاجه لكي تنشيء بيتا وتتزوج وتستقر.. واخذ يدون امامه قيمة »خلو رجل» لشقة محترمة، واثاث البيت، وثم سيارة جديدة، ثم قال: - انت تحتاج لخمسة آلاف جنيه، تستطيع توفيرها في سنة، ثم تعود فورا!! سافرت وعدت اشتريت السيارة واجلت الباقي لسنوات، اعرف ان القاريء العزيز مشغول الان بحساب ثمن ما قدره احسان في ذلك الوقت بخمسة آلاف جنيه.. بأسعار اليوم!! لكني مستغرق في عطر المحبة الذي يشع من الورق امامي مع ذكر احسان.. الاستاذ والمبدع، والاب والصديق الذي يريد الاطمئنان علي كل شيء في حياة تلاميذه.. كم كنا محظوظين بهذا الجيل من الاساتذة، وبهذا الزمان الذي لا يتكرر! آخر اليوميات تدثرت بمعطفي ووقفت وراء زجاج النافذة ارقب تساقط المطر معلنا عن شتاء جديد، رغم صيحات التحذير من برد وعواصف، فتحت النافدة لألامس قطرات المطر، ألمح الطفل الصغير يلهو وسط المطر والريح، اكاد واجري لأضمه خوفا عليه، انتظر كرات الثلج الصغيرة التي مازلت اذكرها لكنها لا تسقط يتوقف المطر ويختفي الطفل الصغير، اسمع اصواتا في المنزل تسأل: لماذا كنت أضحك بهذه السعادة؟ لا اجد الاجابة. كنت مشغولا بأن اجد الدفء في قلب متعب للطفل الذي عاد اليه بعد سفر ورياح وعواصف. وشتاء طويل.. وكنت اسأل النفس: هل يأتي المطر الذي يحمل الفرح الموعود قبل الرحيل؟!