يتحدد محكيُّ "حكايات صغيرة للشيطان"(الصادر عن دار الراية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط. 1، 2016م) شكلا وموضوعا،باعتباره نوعا من الكتابة التي يتوزعها السرد والتأمل، فهو ليس سردا خالصا بالمعني الحرفي للكلمة، أو كما تتداوله المقروئية، بل هو سرد يتمحور حول لبّ السرد التراثي، وتأمل في القصص الديني الإنساني بالمعني الفلسفي للكلمة، حيث يتأتي للمتلقي، وهو يطالع هذا المنجز المكثف والحابل بالثيمات والمواد والأفكار، أن يجوب، بشكل خاطف وحساس، كلّ ما اقترحه النص الديني، بشقيه السماوي والوضعي، ويجعله في صورة المتأمل، والمقارن، بروح بالغة من الحياد، وكأنه يستعرض تاريخ المتخيل العقدي البشري، وبخاصة المواد الحكائية ذات الأهمية القصوي، تلك التي خلخلت المرجعيات الإنسانية، وظل وقعها سيّدا، وأثرها كبيرا في التحكم في قرارات الإنسان ومبادئه وعلاقاته بذاته، وبالآخر في تعدده وتشابهه، فما يكون هذا الكتاب الذي هو كتاب الحكايا سوي كتاب الإنسان ذاته، وهو ينكتب علي هذه الأرض تاريخا من الجراح والتحديات والأخطاء والمعاناة والأفراح والأتراح، فردا وزرافات، جيلا بعد جيل. الثالوث المركزي: تبئر الكتابة في هذا المنجز الخلاسي المتمرّد علي الأنماط والصّنافات، ثلاثة مكونات مركزية تراها الذات الساردة أو المتأملة مهيمنة بشكل لافت في المتخيل القصصي للبشرية، سواء منها ما يرجع في الأصل للنصوص الدينية الكبري، أو ما توارثته البشرية عبر تاريخها الطويل من أساطير وخرافات، وخلطتها مع بعضها، وانزاحت بها عن القواعد، لتصير فيما بعد، محكيات صغيرة تخضع للخصوصية الجغرافية والثقافية، لكنها مع ذلك، تظل مرتهنة إلي مواد مشتركة لا تخطئها البصيرة. أول هاته المكونات النصية اسم الجلالة "الله" بحضوره القوي الذي لا يوازيه أي اسم آخر أو ما يحيل عليه، لذلك، جعله المؤلف في قمة المنجز والمركز الذي تدور حوله باقي الأسماء والقصص والوقائع لا باعتباره فاعلا أولا، بل بوصفه صانع الحكاية البشرية كلها، بل الحياة برمتها التي لا تشكل قصة البشر سوي جزء صغير منها. يخلق الله القصة البشرية، ويهيئ لها الأسباب، ثم يخلق بطلا مزيفا هو "الشيطان" ليكون غريم البشر، وغاويه إلي الابتعاد عن الطريق القويم التي دل الله عليه الإنسان، فتكون القصص، بذلك، وهي تتفاعل وتتطور، واضعة البشر الفاعل فيها والضحية فيها، بين خيارين إما أن يختار سبيل الله ويلتفّ حول نظامه الإلهي الصارم، وينضبط له، أو يختار الطريق السبيل الآخر ويلتفّ حول عدوه الشيطان، فيخسر القصة، وما بعدها من قصص أخري، ويكون بالتالي ظالما لنفسه، ولمن معه، وكافرا بنعم خالقه. في هذا المدار الصوفي، الذي يلتف حول مركز الأبدية تأملا وسردا، يجد الكاتب نفسه مورّطا في المحنة الصوفية، سواء من خلال عيش التجربة الدائرية نفسها عبر الصعود في مدارج المطلق، وتمثيل رحلة الصفاء، أو عبر إعادة تشكيل الحكاية: حكاية الذهاب والرجوع والأحاسيس والتفاعلات المصاحبة لهاته المحنة الصوفية. وهنا، يستعيد المتن بشكل مضمر، نصوصا صوفية كبري، ويتماهي مع مقروئيتها، ويسافر عبر ملكوتها اختصار وإشارة لا تفصيلا. فكانت اللحظة التأملية عجنا متميزا للمادة الصوفية التي خلّفها الرواد في هذا المجال، وكانت اللحظة السردية مماحكة ماتعة لتجربة الأنا في تميزها، وصدقها، وتفاعلها مع اللحظة الزمنية الآنية. أما ثاني هاته المكونات، فهو "الشيطان" باعتباره علامة سيميائية ذات حضور قوي في القصص الديني، بكل ما تحمل من إثارة وغواية، وبكل الحمولات التداولية التي حشدت لفائدة هذا الكائن الغريب الذي لا يظهر إلا من خلال أثره في النفوس، وقدرته الخارقة علي تحويل قناعاتها، وتوجيهها من صفاء السريرة، ونقاء السجية، صوب مواطئ الخطيئة والشر والعصيان، وتحكمه في مفاتيح الرغبة والشهوات، ويدخل بفعل هذه المحمولات السيئة الوقع، في صراع ثنائي، مع الله من جهة، لكونه عقّ خالقه في قصة الخلق الأول التي كان أحد شهودها من جهة، ومن جهة ثانية، يدخل في صراع غير متكافئ مع الجانب الخير في الإنسان؛ خصمه الأبدي. وهنا، يشخّص سعيد نوح الحوار الذي دار بين الخالق والشيطان، مستحضرا المنجز النصيّ للسّهروردي، ومستعيدا فصولا من قصّة الخلق الأول، ونجاح الشيطان، مهندس الخطايا، في تدوين سطور أوّل جريمة في تاريخ البشرية علي الأرض، المتمثلة في قصة قابيل وهابيل، ومتّخذا من موضوعه الموسيقي، بوصفها مدخلا مشتركا للفلسفات والغوايات والاتجاهات، عنصرا مشتهي للتأمل في شقها الإغوائي الذي هندسه الشيطان، حسب منطوق الأسطورة الشهيرة، من أرواح أربعة أطفال بابليين. في حين شكلت "حواء" الركن الأخير في هذا الثالوث المركزي في قصة الخلق الأول، وكأن آدم عنصر ثانويّ في القصة، وضحية ساقته الظروف إلي حلبة اللعبة السردية في المحكي، وإن كانت القصة نفسها المبئرة لحواء تورد أن هاته الأخيرة خلقت من ضلع الرجل/ آدم الأول. وهنا، يربط الكاتب حضور حواء الرمزيّ في قصة الخلق، بوصفها قرينة الشيطان في هندسة واقعة الخروج، وداعمة له في الإيقاع بآدم الأول، وقصة مظلوميتها علي الأرض، فيكون التحول ضمن المكتوب، انسياقا وراء الدعوات الآنية المغرضة التي تجعل من الرجل خصما للمرأة(البطة البيضاء)، وسببا رئيسا في مأساتها التاريخية، فتكون مشاركتها في المتن عبارة عن شكاوي توجه لله؛ ومناجاة له، وتجسيد غيرتها الأبدية من صنوها الرجل. دراما البشرية: تتواصل مآسي البشر في حلقات متتابعة من التاريخ الدموي التي يهيئ سيناريوهاتها بنفسه، بوعي أو بغير وعي، وكأنه يستعجل نهايته، أو لعله يعشق التراجيديا التي يكون ضحية شقية فيها، بسبب أو بدونه. وتتوالي أحداث الملحمة الدرامية التي يشكل الليل والنهار صفحاتها المتعاقبة التي لا تقلب دون أن تراق علي حوافّها الدماء، يقول الراوي في هذا النص: (لم يوجد في القرية الصغيرة بيت لا ينوح، فغضب الرب، في هذا الصباح، دخل كل بيت، لا عاصم ولا باق، والذين حضنتهم في الصباح المبكر يا ناس، أفناهم قطار أعمي، سبعة وخمسون طفلا أخذوا للطحن هذا الصباح، لم نجد من أطفالنا سوي بقايا تحت الحصي...) ص 41 . وفي هذا الإطار، يستتبع المنجز قصص الدراما الإنسانية، محيلا عليها تارة، ومشخصا لرمزيتها أحيانا أخري، ومتأملا أحوال الخلق، وهم يتقلبون في كتاب مسطور بدماء المعاناة، تذكره كتب التاريخ حينا، وتسكت عنه أخري، معتبرا أن الحياة الدنيا منعطفات للألم المتواصل، يقول المحكي: (كتل التاريخ مليئة بالثقوب، مليئة بالأكاذيب والترهات حتي أن قابيل القاتل الشرير هو الموجود بيننا الآن) ص. 52 . لقد وجد الكاتب في المادة التي تضعها أمام الملاحم والقصص الديني والصوفي والأسطوري نسيجا مغريا لتخييط دراما البشرية في استرسالها اللا منقطع، الذي يقطر دما وألما، فلم يكن خطيا في إيراد الصور والمحكيات، بفعل تقنية الذهاب والإياب في الزمن الإنساني التي اعتمدها في تقليب صفحات التاريخ والفكر البشري في امتدادها المهيب الذي لا يشفي، بل يُشقي، وفي تأمل التحولات والحالات سانكرونيا ودياكرونيا، مراهنا علي التفكيك وإعادة التركيب، والتشخيص والترميز، والتبسيط والتعقيد.. وجعل الكاتب كل ذلك استعارة كبري للتدليل علي حساسية الزمن الإنساني في لحظته القاسية التي تجثو علي القيم والمشاعر والحواس، وتلهب سمفونية الألم في أقسي تقاسيمها تراجيدية، وكأن اللغة، كل اللغات في تعددها وتشعبها، باتت عاجزة عن التعبير عن الصورة الماثلة أمام الكاتب في راهن تفاعله مع الوقائع القاسمة للإنسان في كونيته، والإنسان العربي في خصوصيته الجارحة، وكأن كل القصص التي نكتبها، تبدو قاصرة أمام القصة الكبري التي يكتبها البشر خارج منطق الورق والمداد، مشخّصة بآلامه وأحزانه، ودموعه التي لا يكف انهمارها، بوعي أو بدونه، أو لعله ينظر إليها كمصير لا محيد عن المسير منافيه، ومطارحه، ومسارحه، أو كهاوية مسلّمة لا منجاة من السقوط في حلكتها، بل لعلها- حسب منطوق النص- "تلك الأيام نداولها بين الناس، لتكون حكاية" ص. 73 .