سبق أن نشر محسن الرملي، وهو كاتب وأكاديمي ومترجم وشاعر عراقي يقيم في إسبانيا، روايات من قبيل "حدائق الرئيس"، "تمر الأصابع"، "الفتيت المبَعثر". لكنه في هذه الرواية يشتغل علي ألم الداخل، وبعث الذاكرة، ووخز الوجدان والضمير، وتأجيج المشاعر المكبوتة، وذلك من خلال تقديمه شخصيتين (هما محسن وهيام اللذان لم يرَ أحدهما الآخر رأي العين)، متماثلتين في أشياء كثيرة؛ لأنهما ببساطة وجهان لعملة واحدة هي "وضعية العراقي المعاصر في بلاد الشتات". "ذئبة الحب والكتب"، الصادرة عن دار المدي عام 2015، رواية تدعو إلي ممارسة "الحب بوصفه قيمة" في أزمنة تمّ فيها إقصاؤه من بين قيم الحياة المتشيّئة؛ لذا يُهدي المؤلف روايته الي كل الذين حُرِموا من حُبهم بسبب الظروف؛ لأنه جعل روايته مشغولة بعوالم المثقفين والكتّاب والأدباء، هادفة إلي أن تمنح قارئها المتعة والغواية والمعرفة. تتكون الرواية من 21 مشهدا أو فاصلا سرديا معنونا (جريمة في الأردن، ابنة الذئب، كتاب حياته.. عذاب، الزواج إيجار للجسد، سأسميك حسن، حب الشيشاني،باقات بنفسج، أنيس العوانس، هي أنا والعكس صحيح،.. إلخ). تتحرك البنية السردية لهذه الرواية عبر محورين؛ أحدهما هو الراوي الأول وهو من نسق راوٍ-مؤلف Authorial-Narrator، هو محسن الرملي، الكاتب الحقيقي، والراوي الثاني هو شخصية "هيام" ذاتها، المرأة التي يلتقي بها مصادفة عبر رسائل البريد الإلكتروني. هكذا تتحرك أحداث الرواية، في كل فصل، حيث يبدأ محسن سرد حكاياته تحت عنوان (أنا)، يعقبه حكايات هيام المرأة العراقية المقيمة في مدريد تحت عنوان (هي). وما بين سرد محسن وسرد هيام تتكشف علاقات وأحداث ومفاهيم، تنطلق من الأردن صوب العراق وإسبانيا واليمن والسودان وليبيا، لكنّ مركز الدلالة ينبع من العراق بوصفه الوطن/ المرجع الذي ينتمي إليه الراويان. وعبر هذه الرحلة بين فضاءات الأردنوالعراق وإسبانيا تتخلّق شخصيات عدّة (محسن وأصدقاؤه: خالد، رفاعي وأصدقاؤه من الصعايدة المصريين، د. كرّومي، المرأة "هبيبي" الباكستانية التي أحبها محسن، هيام وزوجها وأولادها وأصدقاؤها وصديقاتها: ياسمين، عدنان ابن عمتها، بحر الدين الشيشاني، خلف الشاعر، ... إلخ). تعتمد الرواية علي تقنية البوح الداخلي الدائر حول موضوع الحب، وسط الظروف والملابسات التي مرّ بها العراق في العقود الأخيرة، وهنا، تتنقّل الشخصية الرئيسة هيام -في سرد حكاياتها المتلاحقة التي تشبه حكايات شهرزاد- بين الكثير من البلدان، مثل سورياوالأردن واليمن والسودان وليبيا والمغرب ثم تنتقل إلي إسبانيا، كما أننا نجد في الرواية بعض الشخصيات الحقيقية الحاضرة بأسمائها الواقعية؛ علي رأسهم محسن الرملي وحسن مطلك الرملي، وعبدالوهاب البياتي، ومؤنس الرزاز، والكاتب المسرحي عوني كرومي، .. وغيرهم.وكما جاء علي غلاف الرواية الأخير، فهي رواية عن عراقِيَيْن اثنين، امرأة ورجل، يبحثان عن الحب في ظل أوضاع تمور بالحروب والحصار والدكتاتورية والاحتلال والاغترابات. إنها رواية تبحث عن الخفيّ والمكبوت من المشاعر والأحاسيس، وتتقصّي تمثيلات العواطف والجمال والأمل الإنساني وسط الأوجاع والخراب والدمار الذي طال الشخصية العراقية والعربية علي حد سواء. ولأننا بصدد مرويّة عن الحب، أو هي ثنائية العاشق والمعشوق، فقد دارت رؤيتها الثقافية في هذا المدار، رغم استبطانها صورة العراقي المشرّد، الهائم علي وجهه بين المشرق والمغرب. من هنا، تتجلي أهمية الرواية في كونها تعالج ما يعانيه الإنسان العراقي في الشتات أو المنفيي، فبعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وخروج محسن،ضاربًا في أرض الأردن، يقع علي رسائل هيام الإلكترونية، حين يحاول خطأ دخول الحساب البريدي الذي أنشأه لأخيه حسن المتوفّي منذ سنوات. وبالمصادفة، يعرف محسن أنها امرأة عراقية تسكن في إسبانيا، وأنها واقعة في غرام أخيه ورواياته، وعبر إطلاعنا علي رسائلها إلي حسن، ينبني عالم الرواية الذي يقوم في أغلب أجزائه علي حياة هيام وازدياد شوق محسن إليها، حتي إنه يهاجر إلي إسبانيا حيث تقيم، بحثًا عن تلك المرأة "ذئبة الحب والكتب". وعلي الرغم من إدراك بعض المآخذ التقنية علي هذه الرواية، هنا أو هناك، يبقي لهذه الرواية الكثير من قيم الجودة الفنية والقيمة الثقافية. فما يفعله محسن الرملي هو أنه يدعونا من خلال روايته هذه إلي استعادة قيمة الحب في مواجهة كل أشكال الخراب ومواجهة رحي الحرب التي لا تتوقف؛ إذ يوظف جزءا من سيرته الذاتية في أثناء إقامته في الأردن لعامين؛ ومن ثم انتقاله إلي أسبانيا، لينتج لنا عملا سرديا هو أقرب إلي "رواية السيرة الذاتية" منه إلي الرواية الخالصة.