في مكتبتي الخاصة صفحات كثيرة لمشروعات كتب لم تكتمل. ظروف عديدة أدت إلي أن تبقي في خانة المشروعات، وألا تجد طريقها للنور. كم أتمني أن يكون في العمر بقية، وأن يكون هناك مجال لجهد يبذل لانجاز هذه المشروعات التي لم تكتمل. ومنها ذكريات سنوات طالت في العمل الصحفي وفي الجهد النقابي والسياسي. أرجو أن يكون فيها ما يكشف بعض الحقيقة، وما يكون شهادة علي تاريخ سنوات لم يتوقف فيها الصراع ولا التحديات، وما يمثل ضوءاً علي أحداث كنت قريباً منها أو مشاركا فيها ولو بأصغر الأدوار. الصدفة وحدها تجعلني أعود إلي إحدي هذه القصص التي ارتبطت بالصحافة وبالسياسة معا. ففي هذا الأسبوع قرأت أكثر من اشارة في مقالات لبعض كبار كتابنا عن قضية السفاح محمود أمين سليمان، مع التلميح أو التأكيد علي أنها كانت وراء قرار تأميم الصحافة في عام 1960. وقصة السفاح هذه هي التي استوحي منها أديبنا الكبير نجيب محفوظ قصته »اللص والكلاب» التي تحولت إلي فيلم سينمائي قامت ببطولته الرائعة شادية مع النجمين الراحلين شكري سرحان وكمال الشناوي. والقصة كانت في بدايتها قصة لص عادي يتمتع ببعض الذكاء الفطري. دخل عالم السرقة وهو صبي في لبنان حيث كان يعمل والده، ليسجن هناك ويفر من سجنه ويعود مع أسرته إلي مصر. ويبدأ رحلة أخري في عالم السرقة والاحتيال. ويقبض عليه ويدخل السجن، ويخرج من سجنه وهو يعتقد أن محاميه هو سبب ما جري له، وأنه باعه ليخلو له الأمر مع زوجته. ويبدأ في مطاردة الزوجة والمحامي. وتبدأ بعد ذلك مطاردة الشرطة له، وتبدأ الصحف في متابعة القصة، وتختلط الحقائق بالشائعات. ويزداد الاهتمام بمتابعة القصة الاخبارية للص الذي تحول في التغطية الإعلامية إلي »السفاح» خاصة بعد أن رصد حكمدار القاهرة مكافأة قدرها ألف جنيه »وهو مبلغ كبير للغاية في ذلك الوقت» لمن يساعد في القبض عليه. ثم ينتهي الأمر علي نحو مثير. مطاردة من الشرطة تنتهي لمحاصرة »السفاح» في مغارة بصحراء حلوان. وبين رصاص الشرطة، والرصاصة الأخيرة في مسدسه التي أطلقها نحو رأسه، تنتهي قصة السفاح مع الجريمة.. ليبدأ فصل جديد وغير متوقع بين قصة السفاح وعالم الصحافة والسياسة. كانت »الأخبار» هي الأكثر اهتماما بالقصة، وهي الأكثر تفوقا في تغطيتها. وكان زميلنا الراحل سامي جوهر هو رئيس قسم الحوادث، وهو المسئول عن متابعة القصة. وكان قد أعد عدة صفحات جاهزة للطبع فور القبض علي السفاح أو قتله. وانتهي تجهيز كل صفحات »الأخبار» ولم يبق إلا »المانشيتات» أو العناوين الرئيسية التي كان يكتبها مصطفي أمين بنفسه. كنت حاضراً يومها أعمل مساعدا لاستاذي في الإخراج الصحفي الراحل عثمان لطفي، وحملت معه »بروفات» الصفحات، وصعدنا إلي مكتب مصطفي أمين، حيث كان قد سبقنا إلي هناك باقي قيادات »الدسك» الرئيسي. وكانت هناك مشكلة في ترتيب العناوين. فقد كان عبدالناصر يزور الهند، ثم انتقل منها لزيارة باكستان. وكان للزيارة أهميتها في تطوير العلاقة مع باكستان بعد طول فتور، وبعد أن كانت حكوماتها في جانب التحالفات التي تقيمها أمريكا في المنطقة لحصار مصر ومقاومة المد القومي العربي. كان لابد من إبراز عناوين الزيارة. وكان مصرع السفاح هو حديث الناس ومحور اهتمام الصحف لعدة أيام. وللحقيقة والتاريخ فقد استقر الأمر يومها بأن يكون العنوان الأول في الصحيفة هو: عبدالناصر في باكستان.. ثم يوضع فاصل بينه وبين العنوان الثاني الرئيسي وهو: مصرع السفاح. وبعده يكون هناك عنوان فرعي ببعض تفاصيل نهاية السفاح علي أيدي الشرطة. وتم بالفعل تنفيذ ذلك. لكن ما حدث هو أن الرقابة أبدت اعتراضها وطلبت أن يكون العنوان الرئيسي الذي يطبع باللون الأحمر عن زيارة الرئيس عبدالناصر وليس عن مصرع السفاح. وعندما تم ابلاغ مصطفي أمين استجاب لذلك، وطلب أن يتم تبديل مواقع العناوين. وهكذا أصبح العنوان الأول هو: مصرع السفاح والعنوان الثاني والرئيسي هو عبدالناصر في باكستان. والعنوان الثالث عنوان تفصيلي عن الزيارة. ووقعت المشكلة حين تم الطبع ووجدنا أن العامل المختص نسي وضع الفاصل بين العناوين. وتم ايقاف المطبعة علي الفور وتصحيح الخطأ. وإن بقي عدم التوفيق في ترتيب العناوين!! لم يكن الأمر مقصودا علي الاطلاق. ولو لم تعترض الرقابة من البداية وظلت مانشتات »الأخبار» يومها كما هي، لما كانت هناك قصة يتم تداولها حتي اليوم. ويتذكرها البعض كلما عاد الحديث عن قانون تنظيم الصحافة الذي صدر بعد ذلك بقليل. أو كلما قرأوا قصة نجيب محفوظ »اللص والكلاب» التي صدرت في العام التالي، أو رأوا شادية وهي تبدع في دورها الجميل في الفيلم المأخوذ عن قصة أديبنا العالمي. الفن أجمل وأبقي الفنانون والمبدعون بشر يتنافسون، ويختلفون، ويتصارعون.. وأحيانا يتخاصمون. لكن لا تصدق أبدا أن مبدعا حقيقيا لن يغرق في الأحزان حين نفقد مبدعا آخر!! ولا تصدق أن فنانا تذوق رحيق الفن وعاش عذابه يمكن ألا يتأثر حين يرحل فنان جميل عن دنيانا. في الأيام الماضية قرأت الكثير من البعض الذين انتهزوا فرصة رحيل الفنان الرائع محمود عبدالعزيز، لكي يتسلوا!! بحكايات الصراعات بينه وبين الفنان الكبير عادل إمام. عرفت الاثنين قبل سنوات طويلة. كان ما بينهما »مشاكسات أطفال».. والفنان الحقيقي لا يمكن أن تغادره روح الطفولة مهما امتد به العمر. ومثل هذه »المشاكسات» يمكن أن تقود إلي الأسوأ إذا كانت بين فاشلين، أما حين تكون بين ناجحين ومتألقين، فهي احتفال دائم بالنجاح، وهي حافز للتفوق علي المستوي الفني، وطريق للمحبة علي المستوي الإنساني، حتي وإن كانت مظاهر هذه المحبة لا تبدو للآخرين!! الفن لا يفرق ولكنه يجمع من يهبون حياتهم له. ربما كان مأساة جيلنا أنه شهد من الصراعات السياسية ما يفوق التحمل، وشهد من التقلبات في المواقف في سنوات قليلة ما لم يشاهده جيل آخر. ربما كانت آثار هذه الصراعات كبيرة في عالم المفكرين والسياسيين والكتاب، لكنها في عالم الفن كانت أقل. فالفن - في البداية والنهاية- عامل توحيد لا تفرقة. وأنت حين تسمع أغنية جميلة، أو تشاهد فيلما سينمائيا رائعا، أو مسرحية جميلة.. لن تسأل عن موقف المبدع وآرائه، بل ستنصرف إلي الابداع الجميل الذي يقدمه. وسوف تترك للتاريخ أن يحكم علي المواقف، وأن يقرر أيضا ما هو الفن الحقيقي، وما هو الفن الكاذب والخادع للناس.. اذا كان يصح ان نسمي هذا فنا من الأساس!! لا أريد أن يأخذنا الحديث هنا إلي ما لا نريد. كل ما أريد أن أقوله إن الفن بعيد عن هذه الثرثرات حول خلافات مبدعين، أو صراعاتهم أو تنافسهم في الابداع. الفن جميل. والمجال لا يستحق منا إلا الاحتفاء به والتمسك بكل رموزه. فقدنا فنانا جميلا أمتعنا وسيظل باقيا معنا. أكثر من سيفتقدونه هم من كانوا يتنافسون معه علي امتاعنا بإبداعهم. حين يرحل فنان بقدر وقيمة محمود عبدالعزيز فكل فنان حقيقي يشعر أن جزءا منه قد رحل معه. وكل متابع مثلي سوف يسأل الله أن يعوضنا خيرا، لاننا في أمس الحاجة لكل إبداع جميل ولكل فنان حقيقي، ونحن نواجه قوي التخلف وأعداء الحق والجمال. أغانٍ صينية مشكلتي مع الأغاني الجديدة، هي ما أشار إليه الموسيقار عبدالوهاب قبل رحيله، حين تحدث عن موجة »الأغاني الصينية».. وكان يقصد أننا أمام موجة من الألحان والأصوات المتشابهة في الملامح والأنغام. أحاول متابعة الجديد. أسمع شريطا كاملا لمطرب أو مطربة، ثم أخرج وكأني سمعت لحنا واحدا، قد يكون جيدا في بعض المرات، ولكنه في أغلب الأحيان.. ليس كذلك!! حين أعود لألحان آخر جيل العمالقة من الملحنين أجد لكل منهم أسلوبا أعرفه فور أن اسمع ما يبدعه، لكني لا أجد أغنية مثل الأخري إلا فيما ندر. هكذا كان الموجي والطويل وبليغ. ولذلك ستجد هذا التنوع فيما يقدمه مطربو هذه المرحلة.. من عبدالحليم إلي نجاة وفايزة أحمد ومحرم فؤاد، وغيرهم من الأصوات النادرة التي تعيش معنا حتي اليوم بأغنياتها الجميلة.. والمتنوعة الألحان والكلمات الآن.. تدور الأغنية »بملحنيها ومطربيها ومؤلفيها»، في نفس الدائرة. يختفي التنوع، ولا يبقي في السوق الغنائي إلا هذا »الهلس» الذي يتم تقديمه علي أنه الغناء الشعبي، وهذا الترديد الممل لجمل موسيقية لا تعرف المغامرة، ولا تستكشف مناطق جديدة في أصوات جميلة نملكها.. ودعك من استكشاف أصوات أخري لا تملك الفرصة التي أصبحت تملكها أجساد غنائية بعد أن أصبحت مدرسة هيفاء وهبي هي الأساس في الغناء العاطفي، ومدرسة »إديني بوسة»، هي الأساس في الغناء الذي يقال إنه »شعبي»، لنعود مائة عام إلي الوراء، ونعلن التفوق علي مرحلة »إرخي الستارة اللي في ريحنا»، و»فيك عشرة كوتشينة في البلكونة»!! أكتب عن الأغنية، لأنها كانت علي الدوام هي التعبير الأسرع والأصدق عما يحدث في المجتمع. هكذا عبرت بكل الصدق عن ثورة 19، ثم عن ثورة 1952، وعن حروبنا من 56 إلي العبور العظيم في 73، وعن معاركنا من انتزاع الاستقلال إلي بناء الدولة إلي محاربة التخلف ومقاومة الاستبداد، وضرب الإرهاب.. وهنا يبقي السؤال: لماذا تبقي الأغنية المصرية- وعلي غير عادتها- بعيدة عن التعبير عن آمالنا وهمومنا في هذا الوقت؟ ولماذا لم تقدم - حتي الآن- ما يليق بثورتي يناير ويونيو؟ أم أن ما نتمناه موجود، ولكنه لا يصل إلينا، ولا نستطيع الاستماع له؟! عن الدواء.. والأزمة تسمع لوزير الصحة، فتعتقد أن كل الأمور بخير، وأن الدواء متوفر بالسوق، وأنه ليست هناك مشكلة، وأن بعض مصنعي الدواء عندنا يكسبون،كما قال- 2000٪ من ثمن الدواء الذي يبيعونه، ولا بأس من أن يتحملوا نتائج القرارات الأخيرة بخفض سعر الجنيه دون زيادة جديدة في سعر الدواء!! وتسمع لبعض أصحاب مصانع الأدوية، فتجد كلاما معاكسا، وتجد صراخاً من أنه باستثناء أربع أو خمس شركات كبيرة، فإن باقي مصانع الأدوية لن تستطيع الاستمرار في الإنتاج أو تحمل الخسائر لفترة كما قد تقفل المصانع الكبيرة انتظارا لتصحيح الأوضاع!! وبين هذا وذاك تدور علي الصيدليات بحثا عن دواء عادي فلا تجده. وتتعالي الشكاوي من نقص المحاليل اللازمة لمرضي الكلي أو الأدوية المطلوبة لأصحاب الأمراض المستعصية شفاهم الله. الحكومة بادرت باعتماد المبالغ المطلوبة لاستيراد الأدوية الضرورية والتي لا بديل عنها من الإنتاج المحلي، ورصدت لذلك أكثر من 18 مليون دولار. لكن المشكلة مازالت لها جوانب تحتاج للحل. وما نراه يكشف عن خلل جسيم في أمرين.. الأول: أن الاستعداد لمواجهة آثار تعويم الجنيه لم تكن علي الوجه الأكمل، وما يحدث في عالم الدواء سنجد مثيلا له في الكثير من السلع الأساسية. والأمر الثاني هو أن بقاء صناعة الأدوية الوطنية تعتمد علي استيراد أكثر من 90٪ من المواد الأساسية لصناعة الدواء من الخارج هو كارثة بكل المقاييس، وخطر داهم علي الأمن الوطني. بسبب الأزمات المتوالية بدأنا أخيرا في انتاج لبن الأطفال، وفي بناء مصنع للمحاليل المطلوبة لمرضي الكلي، وآخر للأمصال، والأدوية الخاصة بعلاج السرطان وغيره. تأخرنا أكثر من اللازم في هذا المجال. ولعل التعاون الذي بدأ في هذه المشروعات بين المؤسسات الصحية الحكومية والشركات الخاصة ووزارة الإنتاج الحربي، يفتح الباب لسد هذه الثغرة الخطيرة في أمننا الوطني. وإلي أن يحدث ذلك، فالمطلوب حالة طواريء صحية تعبر بنا هذا الظرف الطاريء، بعيدا عن تبادل الاتهامات بين الوزير وصانعي الأدوية.. بينما المرضي يدوخون بحثا عن أدوية يجدونها علي شاشات التليفزيون، وتخلومنها معظم الصيدليات!! آخر اليوميات بالأمس طائر الحب زارني. لم يكن لدي سوي الاسئلة، ولم يكن لديه إلا الصمت. فتحت كتاب العشق وقرأت: الصمت في لغة المحبة هو أبلغ ما يقال.