تحكي لنا " الأوديسة " عن البطل الإغريقي ( أوديسيوس )، الذي خالف آلهته في رحلة العودة، عقب حرب طروادة، فتعرضت سفينته لبعض الأهوال، منها وقوعه وبحارته تحت تأثير سحر حوريات البحر؛ فلما اقتربن من السفينة، سدَّ آذان البحارة بالشمع، حتي لا يسمعوا أصواتهن التي تذيب القلوب؛ أما هو، فقد أمر رجاله أن يوثقوا رباطه إلي صاري السفينة؛ فكان الوحيد الذي سمع الأصوات الساحرة؛ وكان - كلما تصاعد تأثيرها عليه - شدد الرجال وثاقه؛ فنجا ونجوا من هلاك محقق !. خرافات كثيرة، تأخذ ألواناً متعددة، تعدد الشعوب التي صنعتها وتوارثتها، تروي عن تلك الكائنات ذات الأجسام الضخمة، والسلوكيات القريبة من سلوكيات البشر، والتي تغني، أو تصدر أصواتاً صافرة طويلة حادة، متعددة النغمات؛ منها جاء اسمها العلمي: Sirenian ، ونري أن أفضل ترجمة له هي: " الصافرات "؛ وهو اسم واضح الصلة بالكلمة الإنجليزية :Siren؛ ومعناها القاموسي: صفارة المركب، وأيضاً، عرائس الماء، عند الإغريق، تسحر الملاحين بحسن غنائها، وتودي بهم !. وتصنف جميع الصافرات في ( جنسين ) : الأول هو ( الماناتي )، أو نوق البحار، ويتميز فيه ثلاثة أنواع، هي : ناقة غرب أفريقيا، وتعيش في المياه البحرية؛ وناقة الكاريبي، ويمكنها التنقل بين مياه البحر المالحة ومياه النهر العذبة؛ ثم ناقة الأمازون، وهي لا تعيش إلا في نهر الأمازون وروافده. أما الجنس الثاني، فهو ( الديوجونج )، أو ( خراف البحر )، ولا نعرف إلا نوعاً واحداً منها، يعيش في البحر الأحمر، وبحر العرب، والخليج العربي، والمحيط الهندي، وغرب المحيط الهادي؛ وثمة روايات - غير مؤكَّدة - عن نوع آخر، كان يسمي " ديوجونج بحر ستيللار "، عاش حتي الربع الأخير من القرن الثامن عشر، ثم اختفي من خريطة الحياة، نتيجة لأعمال الصيد المكثَّفة. وعلي أي حال، فإن الأنواع الأربعة المعروفة حالياً من الصافرات، مدرجة في قائمة الكائنات الحية المهددة بالانقراض؛ إذ تتدهور أحوال تجمعاتها، وتتناقص أعدادها، بصفة مستمرة، بالرغم من تعدد محاولات حمايتها والحفاظ عليها. والحقيقة أن كلاً من الماناتي والديوجونج يتعرض لمجموعة من المضايقات والمنغصات تتسبب في هذا المأزق الذي يواجه الصافرات البحرية؛ ففي الماضي، كان ثمة أنشطة صيد ضاغطة، موجهة أساساً إلي هذه الكائنات، من أجل لحمها ودهنها وجلودها؛ وفي الحاضر، لا تزال أعمال الصيد غير المشروعة مستمرة في الخفاء، بكثير من مواطن تواجد الصافرات، التي تفتقد الوسائل الدفاعية، وهي - أيضاً - بطيئة السباحة، فلا تزيد سرعتها عن 4 ميل / ساعة، فتلجأ إلي الدفاع السلبي، مبتعدة عن مصادر الشر والأذي، فتتواري في الخلجان والبطون قليلة الغور، حيث يتوفر غذاؤها من النباتات المائية، وحيث لا يجد أعداؤها الطبيعيون طريقاً إليها. ولكن التوسع العمراني يطارد الصافرات؛ ففي ولاية فلوريداالأمريكية، علي سبيل المثال، زحفت المشروعات السياحية والمنتجعات علي الشواطئ، وكان ذلك علي حساب الماناتي الكاريبي، الذي يبلغ تعداده في مياه فلوريدا 1200 حيواناً، من مجموع التعداد العالمي الكلي لهذا النوع، و يتراوح بين 5 و 10 آلاف ماناتي. ومنذ سنوات قليلة، خصصت البرازيل مركزاً علمياً تجري به دراسات متنوعة علي ماناتي نهر الأمازون، أوضحت للعلماء البرازيليين أن معدل التمثيل الغذائي لهذا الماناتي هي الأقل بين كافة الحيوانات العشبية اللبونة؛ ولعل ذلك يفسر اضطرار الماناتي الأمازوني إلي استهلاك كميات ضخمة من الغذاء النباتي، الذي يشمل بعض النباتات الوعائية، والأعشاب البحرية، والمنجروف، والطحالب. وتقدَّر الكمية التي يمكن للفرد الواحد من ماناتي الأمازون بحوالي 10 ٪ من وزن جسمه؛ والجدير بالذكر، أن الرقم القياسي لوزن جسم حيوان الماناتي مسجَّل باسم ماناتي البحر الكاريبي، وقدره 3600 رطل !. الحدير بالذكر أيضا، أن إقبال الماناتي علي النباتات المائية بهذه الدرجة من النهم رشحه ليكون وسيلة مثالية للتخلص من نباتات مائية تنمو بكثافة شديدة في بعض المسطحات المائية الهامة، كنهر النيل وبحيرة فيكتوريا؛ فاقترح بعض العلماء استقدام أفراد من هذا الحيوان وتوطينها في تلك المواقع، كبديل طبيعي للمبيدات الحشائشية، يلتهم التجمعات الكثيفة من تلك النباتات، التي تسد الطرق الملاحية وتعطلها، وتحرم الكائنات المائية من الأكسجين، كما أنها تستهلك جانباً مؤثراً من المخزون المائي. الغريب، أن تلك الحيوانات الصافرة تبدو وكأنها لا تريد مساعدة نفسها في تجاوز حدود الخطر الذي يحيط بوجودها؛ فهي بطيئة التوالد؛ فإذا افترضنا انخفاض معدل الوفيات الطبيعية لهذه الكائنات، وعدم تدخل الإنسان، بالصيد وغيره من وسائل تدمر بيئتها الطبيعية، فإن معدل تزايد أعداد تجمعات كل أنواع الصافرات ، بصفة عامة، لا يزيد عن 5 ٪ بالسنة. ويقدِّر العلماء عمر الحيوان الصافر بقراءة حلقات مدموغة علي أحد نابي الفم، تدل علي معدل النمو؛ وكان أكبر عمر سُجِّل لفرد من الديوجونج هو 73 سنة. ويبلغ الذكور سن الخصوبة في السنة العاشرة، وقد يتأخر البعض إلي السابعة عشرة؛ أما إناث الماناتي، فينضجن عند سن أربعة أعوام، في البيئة الطبيعية، ويتأخر سن النضج عندهن إلي ثماني سنوات، إذا حُبِسن في أحواض التجارب أو العرض. ولا تعطي الأنثي من الصافرات سوي وليد واحد، بعد فترة حمل تمتد إلي 14 شهراً؛ ويتكرر الحمل كل 3 / 7 سنوات، في حالة الديوجونج، وكل 2 / 3 سنة، عند الماناتي. وتشبه عملية الولادة ما يحدث في حالة الإنسان، إذ يخرج العجل الوليد بعد موجات من التقلصات تنتاب جسد الأم؛ ولا يلبث أن يأخذ طريقه، صاعداً إلي سطح الماء، من أجل أول دفقة هواء تدخل رئتيه، وهو يطلق صرخات عالية !. ويأتي الوليد إلي الحياة بلا أذن خارجية متميزة، ويكون غائر العينين، يغطي الشعر شفتيه؛ ويصل إلي 47 بوصة طولاً، و63 رطلاً وزناً؛ وتمتد فترة الرضاعة إلي 18 شهراً. ويلفت الانتباه في سلوكيات التزاوج عند ماناتي البحر الكاريبي أن الأنثي تظل عازفة عن مخالطة الذكور، لحين بلوغها سن النضج، ومن ثمَّ تستجيب لمطاردتهم لها، ولا ترفض ذكراً يتودد إليها . وبالرغم من كل ما تم من جهود علمية، فإن تاريخ حياة الصافرات وسلوكياتها لا يزالا مجهولين، في معظمهما؛ وذلك لأن تجمعاتها في المياه الطبيعية متفرقة، كما أن دراستها، وهي واقعة تحت ضغط الحبس في الأحواض المغلقة، مهما توفرت لها سبل العيش الطيب، لا تأتي بنتائج دقيقة. وقد لوحظ أن الماناتي المستضاف في أحواض الدراسة والتجريب مغرم باللعب والتمطي وحك الجلد في قاع الحوض، كما أنه يستجيب للدغدغة. ويغفو الماناتي علي القاع؛ وهو لا ينعم بالنوم العميق طويلاً، إذ يضطر إلي قطع إغفاءاته، كل عشر دقائق، ليطفو إلي السطح، ليملأ رئتيه بالهواء! وقد حظي حيوان الديوجونج، واسمه عند العامة ( عروس البحر )، في البحر الأحمر، بجانب كبير من اهتمامات الدكتور حامد عبد الفتاح جوهر، رائد علوم البحار في منطقتنا العربية، طوال سنوات عمله بمحطة الأحياء البحرية بالغردقة، إذ قادته المصادفة إلي أول لقاء بعروس البحر، في العام 1942، حيث عثر علي بعض عظامها متناثراً علي الشاطئ، فجمعه وعكف علي دراسته؛ ثم أفرد للصافرات البحرية برنامجاً بحثياً، استغرق 14 سنة؛ ثم بدأ ينشر أبحاثه عن هذا النوع من الصافرات. وتتضمن أبحاث د. جوهر، إضافةً إلي الدراسات التصنيفية الوصفية المسهبة، القيمة الصيدلانية لدهن الديوجونج، الذي كان صيادو البحر الأحمر يستخدمونه في الطهي، والذي يتميز برائحة وطعم مقبولين، وبقدرته علي البقاء لمدة طويلة دون أن يفسد، و بدون إضافة أي مواد حافظة. وللأسف، فإن أحداً، بعد د. جوهر، لم يهتم بمتابعة دراسة أحوال الديوجونج في مياهنا البحرية، مع أهمية وضرورة هذه الدراسة، كأساس لجهود الحفاظ علي المتبقي من أفراد هذا الحيوان، وإنعاشه، وإبعاده عن حافة هاوية الانقراض.