رجل دفعته الأقدار للمجيء إلى الغردقة فى رحلة قصيرة مكافأة له من أستاذه السويسري "أدولف بيف" فلما جاء إليها، وجد فيها الهدوء والسكينة التى توفر له الإبداع العلمي، لذلك عشقها إلى آخر يوم فى حياته، إذ وجد البقاء بها امتداداً لرسالته العلمية التى آمن بها طيلة حياته، وفى معهد علوم البحار الذى كان يتبع كلية العلوم بالجامعة المصرية كانت له إنجازات فى تطويره والارتقاء به فعمل على تأسيس متحفه، وإقامة مكتبته الضخمة التى أمدها بأمهات الكتب العالمية فى علوم البحار، وأنجز فيها معظم أبحاثه العلمية التى أوصلته للعالمية ، إنه بحق قيمة كبرى تستحق الذكر والتمجيد ...
ولد حامد عبد الفتاح جوهر بمدينة القاهرة سنة 1907م ونشأ فى أحضان أحياءها القديمة ذات الأصالة والعراقة، وتعلم فى مدرسة السلطان الحنفي الأولية، ثم التحق بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بحي الدرب الأحمر، حيث تعلم فيها مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ جانبا من القرآن الكريم، وساعده ذلك على استقامة لسانه فى نطق اللغة العربية.
انتقل حامد جوهر بعد ذلك إلى مدرسة الأوقاف الثانوية الملكية (مدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية فيما بعد)، وتعلم من أستاذ اللغة العربية بها "عبدالله العفيفى" حب اللغة والأدب وخصوصاً الشعر الذى حفظ الكثير منه فى عصوره وبخاصة الجاهلي فحفظ المعلقات، وشغف بشعر المتنبي، وأبى العلاء المعرى، وشوقي، وحافظ، وأثناء حياته المدرسية أحب العلوم الرياضية واللغة الإنجليزية واللغة العربية وكانت له هوايات فى الموسيقى والتصوير الفوتوغرافي كما عشق السباحة حيث تعلمها فى حمام وزارة المعارف.
وبعد حصوله على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة الآن) عام 1925م، التحق بكلية الطب ونجح فى الفرقة الإعدادية بتفوق، وانتقل إلى الفرقة الأولى، لكنه آثر أن يتحول إلى كلية العلوم حديثة النشأة فى ذلك الوقت فى مصر بل فى الشرق العربي كله، وكان يجرى فى دمه ميلاً إلى دراسة العلوم الطبية والطبيعية والبيولوجية لذلك فضل كلية العلوم الوليدة .. وكان من أساتذته: رائد علم الحيوان فى مصر الدكتور محمد خليل عبد الخالق، وخاصة علم الطفيليات والتي كانت تعكس الأهمية للبحوث العلمية على تقدم الطب، والدكتور على مصطفى مشرفة، والدكتور مصطفى نظيف ..
تخرج أول دفعته عام 1929م، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى متخصصاً فى علوم الحيوان والنبات وتخرج معه فى دفعته عشرون آخرون منهم: الدكتور محمد مرسى أحمد وزير التعليم العالي فيما بعد، والدكتور محمد مختار عالم الفيزياء الشهير الذى لقب بأبي الفيزياء فى القرن العشرين، والدكتور عبد الفتاح محمد عالم الكيمياء البحرية، بعد ذلك حصل على درجة الماجستير فى علم الحيوان بعنوان: "التشريح الدقيق وهستولوجيا الغدد الصماء فى الأرانب" عام 1931م، وقد كانت أول رسالة تُقدم لكلية العلوم بعد إنشائها بإشراف العالم السويسري الجنسية "أدولف نيف"، أستاذ ورئيس قسم الحيوان بالجامعة المصرية.
المجيء إلى الغردقة وعشقه لها: وقد كان حامد جوهر موضع تقدير أستاذه "أدولف نيف" والذي كان جوهر يساعده فى دروسه العلمية للطلاب، ورأى أن يكافئه على الجهد الذى بذله فى رسالته للماجستير، فأخذه معه إلى الغردقة على ساحل البحر الأحمر حيث كانت الجامعة المصرية قد أنشأت محطة بحوث تختص بدراسة الأحياء المائية، وسافر المعيد حامد جوهر مع أستاذه إلى الغردقة، ولأول مرة فى حياته فى يوم 5 يوليو1931م حيث استقلا السيارة من القاهرة إلى السويس، ثم استقلا المركب "جانيرا" التابعة لشركة الزيوت المصرية الإنجليزية، وكانت هذه الزيارة المنعطف المهم فى مسيرة حامد جوهر العلمية والعملية..
ما كاد حامد جوهر يرى البحر الأحمر فى محطة الأحياء المائية بالغردقة حتى شغف بها حباً، ولاعتبارات علمية ووطنية آثر المقام على شطآنه ليعمل مساعداً للرئيس الأجنبي "كروسلاند"، ولاحظ جوهر أن العينات البحرية الثمينة من كائنات البحر الأحمر الرخوية والمرجانية يبعث بها إلى المتاحف العلمية الأجنبية، ففضل المقام فى الغردقة حارساً أمينا على ثروتنا العلمية الموجودة بالبحر الأحمر وكأنما فتنته عرائس البحر، فاتخذ من البحث العلمي فى كائناته وأسماكه ذريعة ليبقى بجوارها متبتلا فى محرابها، خبيرا عالما من علماء البحار المرموقين، وعندما تفرغ للعمل فى محطة الأحياء البحرية فى الغردقة دفع بوقته كله الدراسة والبحث على تطوير المكان، فبدأ يتأمل المكان بعين الخبير المدقق والعالم الأمين، فأعجب بالشطآن الرملية والصخرية المتعرجة والمراجين الحمراء، والزرقاء، والأرجوانية، التى تستقر تحت الماء الأزرق الفيروزي الذى لا مثيل له فى النقاء والصفاء.
ووقع اختيار حامد جوهر على إحدى المرجانيات اللينة، لم تكن حياتها معروفة من قبل على مستوى العالم كله، وكان قدماء البحارة يطلقون عليها "الزينة" واختارها للدراسة والبحث وتطرق إلى طرق جديدة فى بحثه لم تكن معروفة من قبل وبعد سنوات أربع من دراسته تقدم بحصيلة هذه الدراسة فى رسالة علمية حصل بها على "الدكتوراه" فى العلوم (DSC)، وهى أرفع درجة علمية فى العالم .. وكانت أول مرة تمنح فيها هده الدرجة العلمية من جامعة القاهرة بعد أن أرسلت الجامعة الرسالة إلى الجمعية الملكية بلندن لتقييم الرسالة على مستوى نفس الدرجة التى تمنحها الجامعات البريطانية، وجاء الرد من انجلترا من العلماء المختصين يقول: "إن مستوى الرسالة يفوق المستوى المطلوب للحصول على درجة دكتوراه العلوم التى لا تمنح إلا للإنجازات العلمية الرفيعة والتي توصلت إلى نتائج تعد إضافات جديدة إلى المعلومات المعروفة عن هدا التخصص".
ولم تفتنه الدرجة العلمية التى حصل عليها، ولم يتطلع إلى سكن المدينة أوالمناصب الرفيعة التى عرضت عليه ولكنه آثر البقاء فى الغردقة صومعته، ينجز الأبحاث التى نشرت فى كبرى الدوريات العلمية العالمية وقد تتلمذ على يديه المئات من الدارسين والذين حصلوا بإشرافه على درجات الماجستير والدكتوراه.
لقد أنشأ فى معهد علوم البحار متحفا بحرياً رائعاً به مجموعة تحتوى على الغالبية العظمى من حيوان البحر الأحمر ونباته، بحيث تعد مرجعاً لدراسة هذا البحر، كما أنشأ مكتبة تضم أغلب المراجع الأساسية لدراسة البحر الأحمر تجمّع معظمها عن طريق التبادل مع المعاهد العلمية البحرية العالمية، كما أنشأ معهد الأحياء المائية بعتاقة بالسويس وأقام به متحفاً آخر لأحياء البحر الأحمر نسقها تنسيقاً تصنيفياً وبيئياً عل أحدث النظم والأصول العلمية، ولقد نشر الدكتور جوهر بحوث محطة الأحياء البحرية، وأشرف على طبعها وتبادلها على ثلاثمائة معهد فى الخارج وظل يشرف على طبعها بانتظام ما يزيد على ربع قرن من الزمان.
وقد كسب الدكتور جوهر ببحوثه ودراساته شهرة عالمية، فشارك فى عشرات المؤتمرات الدولية فى علم الحيوان وعلوم البحار والمصائد..كما زار عددا كبيرا جدا من الجامعات والمعاهد الخاصة بعلوم البحار والمصائد ومحطات الأحياء البحرية ومتاحف التاريخ الطبيعي ..
صور من التكريم: ذاع صيت الدكتور حامد جوهر وحقق شهرة مدوية، وأصبح حديث الناس والهيئات العلمية، وكُرّم من أكثر من جهة، فقد دعته جامعة "كمبردج" لمتابعة أبحاثه التى بدأها بالخارج، وانتخبته أكاديمية العلوم للعمل عضواً رسمياً فى المؤتمر الدولي للمعاهد البحرية 1956م، واختارته الأممالمتحدة مستشاراً للأمين العام لها فى علوم البحار ضمن عشرة مستشارين، وكذلك اختارته المؤسسة المصرية العامة للثروة المائية عضواً فى مفاوضات الحكومة السوفيتية للتعاون فى مجال الصيد 1963م، وكان رئيساً لجمعية علوم الحيوان فى مصر منذ إنشائها وحتى وفاته، ورئيساً للجمعية المصرية لعلوم البحار وزميلاً للأكاديمية المصرية للعلوم وتوج حياته بعضوية مجمع الخالدين (مجمع اللغة العربية) منذ 1973م وحتى وفاته.
وفى أوائل يونيو 1992م أحس الدكتور حامد جوهر بوطأة المرض ودخل المستشفى إلى أن أسلم الروح لباريها فى 17يونيو 1992م وشيعه أحباؤه ومريديه وتلامذته إلى مثواه الأخير ...
أبوالحسن الجمّال.... الغردقة فى يوم الثلاثاء 10/8/2010م