فؤاد حجازي مبدع متميز يكتب القصة والرواية والمسرح للصغار والكبار شارك في حرب 1967 وأسر وقضي في سجن عتليت بإسرائيل أكثر من ثمانية أشهر كما تعرض للسجن في مصر أكثر من مرة بسبب مواقفه التقدمية وله أكثر من ثلاثين عملاً إبداعياً في الرواية والقصة والمسرح وأدب الأطفال والنقد التطبيقي والسيرة الذاتية. وروايته الأحدث (لا تنس الهدهد) الصادرة عن سلسلة روايات الهلال "فبراير 2016م" ماهي إلا واحدة من تلك الإحالات التي يقدمها بفنه الأدبي الرفيع لترفع أصابع الاتهام لكل سلبيات الحياة، الحياة التي لابد أن تستمر وبالتصالح الإنساني مع الأزمات التي تتشاكل مع الحياة بكثير من الهدوء السردي مع قوة انفعالاته التي بدت مثل الوخز في جسد الحياة نفسها. ومنذ الصفحات الأولي، وبعد أن تتوقف وتُنعم النظر ملياً في العنوان الإشكالي الذي اختاره الروائي "فؤاد حجازي" لروايته تدرك أنه عنوان مخادع لم يشكل عتبة دلالية لنصية الرواية بقدر ما كان غامضاً، فذلك الهدهد الذي يأمر المبدع بلا الناهية ألا يُنسي وهو خطاب موجه إلي الابن الذي جرته المخدرات إلي حالة من المرض النفسي الذي يستدعي دخوله إلي المصحة/المستشفي المرفوض من الابن. وتبقي في حالة بحث دائمة عن ذلك الهدهد الذي تكرر حضوره ست مرات في النص الروائي، وتتيقن أنه ليس هدهد سيدنا سليمان عليه السلام الذي علمه المولي لغة الطير، وأنه ليس ذلك الطائر الذي اكتشف مملكة بلقيس وكان السبب المباشر في اعتناقها الإسلام، بحيث لن تجد أية إشارة إلي إسقاط أو دلالة علي اقتباس أو تناصٍ، ويستمر السؤال محركاً أفكار العقل حتي تكتشف القصة وراء هذا الهدهد، فبعد أن خافت الأم من تفاقم مرضه النفسي (وجدت نفسي أقول للولد: أخذت الهدهد؟ وانطلقنا ضاحكين عدا ليلي التي تساءلت: - لا.. حكايتكم حكاية هذا النهار، فشرحت لها أن صديقة له تدعي (هدي) لا تكف عن محادثته تليفونياً، نصحته بأخذ حبة (كلوزايكس) بدلاً من الحبوب المهببة التي يشتريها، وسألت الصيدلي عنها، فوجدتها رخيصة، وتباع خارج الجدول (المحظور صرفه إلا بأمر الطبيب لتأثيره الشديد علي الأعصاب) وهي لعلاج انفصام الشخصية، والأهم أنها تخمده، وكلما اشتكي من قلة النوم صحنا فيه: أخذت الهدهد، حيث أسمينا الحبوب علي اسمها الذي أطلقناه عليها بيننا) ص:25-26 وهكذا يخرج الهدهد من مستويات التفكير الهام بالهدهد كطير له شأن ما ورد في القرآن الكريم إلي مجرد اسم تمويه لنوع من الأدوية ذات التأثير الشديد علي الأعصاب. وبعد إخراج الهدهد من مدار التفكير يدخل في مفاصل نصية الرواية التي قسمها المبدع إلي مشاهد تسهل له عملية الدخول والخروج من مفاصل الرواية ونقلاتها القائمة علي السرد المركب، حيث يدخل النص ويخرج من مسروده إلي آفاق أخري ثم يعود إليها. إلا أن هذا الدوران السردي المركب لم يكن في فضاء روائي مفتوح علي كم من الشخصيات وكم أكبر من الأحداث والحكايات التي تتوالد من بعضها وإنما بقيت ضمن إسار أسرة تتألف من ثلاثة أشخاص رئيسية وشخصية ليلي الابنة بالإضافة إلي عدد ضئيل من الشخصيات المحكي عنها. فكل ما جري وتوالد من أحداث كان معظمها أسير الجر الأسري الذي يُعاني من الولد العاطل عن العمل والمتعثر في حياته الاجتماعية والدراسية فانجرف إلي المخدرات التي أفقدته توازنه وجعلته يستدين من أصحاب المحلات المجاورة لبيته حتي يشتري المخدرات مما أوقع الأب الموظف البسيط. والباحث الذي يكتب الدراسات والأبحاث الجامعية لقاء أجر، والأم الموظفة في دائرة تسجيل السيارات في حالات كثيرة من الإحباط والصراع المستمر حول الولد الذي ينتقل ما بين المخدرات وحبوب الهلوسة إلي المانجو من دون إخضاعه لسيطرة الأب أو الأم مما أصابه بمرض نفسي يستدعي دخوله المصح الذي يرفضه الابن رفضاً باتاً. وخلال تخامر الصراع بين أفراد الأسرة علي قوائم سردية عُرف المبدع في براعته في مثل هذا العمل السردي الذي يُميز تجربته الحيوية والإبداعية وكأنما كتلة واحدة تتكرر في معظم رواياته حيث السرد الخاطف والرؤي المشهدية والتوصيف المتقن للأشخاص والأمكنة والشوارع، والوصف الداخلي لمعاناة كل من الأب والابن وهما يواجهان أزمة ابنهما المدمن علي المخدرات ويستدين من كل اتجاه ولا يكون أمام الأب سوي أن يُسدد ديونه من دون تدخل جذري لمنع لولد سواء من الدين أو التوقف عن تعاطي المخدرات حتي أنهما يبديان سعادتهما وهما يشاهدان ابنهما ينتقل من المخدرات إلي المانجو وكأنه إنجاز مما يضع الأب والأم أما سؤال يبحث عن طبيعة موقف كل منهما تجاه أزمة ابنهما الذي مهما سوي الذهاب به إلي الطبيب صاحب الأجر المرتفع فيترددون حتي في هذا الاتجاه إلا أن ما افرزه النص الروائي من أحداث لم تكن غريبة كثيراً عن واقع كثير من الأسر المعاصرة المحاصرة بالبطالة وندرة فرص العمل للشباب فلا يجدون غير المخدرات ملاذ هروب ينسيهم همومهم ومتاعبهم. ومع ذلك لم ينعدم الجو الرومانسي أمام الشبق الجنسي، فكما كانت أغنيات عبد الحليم وعبد الوهاب وأم كلثوم تتسرب إلي الجو الأسري، كان الأب ينتظر نوم الزوجة والابن ليفتح التلفاز علي القمر الغربي ليشاهد أفلام الجنس المثيرة، يحاول من خلالها شحن أعماقه بطاقة غريزية يسهل التواصل مع زوجته وقد لاحظ في المرات الأخيرة، وهي قليلة ومتباعدة أنها ليست معنية بالفعل، بقدر ما هي معنية بالفراغ منه، حتي تسرع لتغتسل وتكون جاهزة وقت صلاة الفجر) ص:68 . ومن يتأمل وينعم النظر في نقلات المشاهد التي توزعت نصية الرواية يكتشف كثيراً من الجمل المفتاحية سواء التي بدأت بسرد المشهد أو ما جاء في سياقاتها أن النص لا يتعدي أن يكون مسرود يوميات لأسرة مشغولة بهموم الحياة عامة وهم انحراف ابنها خاصة ليعيشا في دوامة الحياة أسرة مفككة مثقلة بمتاعب الحياة وهمومها التي لا تنقطع حتي جاءت الخاتمة فاتحة للأمل الضائع الذي يعيشه بطل القصة وهو يقاتل علي جبهات عدة: 1- جبهة الخارج المشحون بالمتناقضات والمفسدات التي طغت علي الأحلام وحاولت أن تقتل الأمنيات. 2- جبهة الداخل الأسري سواء من زوجته أو علي مستوي الابن الذي لم يستطيع إنقاذه حتي بدخوله إلي المصح لذلك جاءت الخاتمة باب خروج لكل معاناته وأزماته: (ذهبت إلي الشرفة نحو الأفق، سحب عكرة المزاج، تصقل في بقعة، وتخف في أخري، فتنفذ أشعة هينة من الشمس، وفكرت في العودة إلي أوراقي، فإلي متي أجعل نفسي رهينة لتجهم الولد، انسابت قطرات المطر، مددت يدي نحوها وعرضت وجهي لها، وأنبتت القطرات ما غاب في لا وعيي، فرددت كما كنت أفعل مع أقراني صغاراً. - عيب عليك ياشتا والشمس طالعة) ص:104 من خلال الجملة الأخيرة تفتح الشمس النهاية المفتوحة علي الأمل وتغيير الواقع، هذا التغيير الذي طالما اشتغل عليه المبدع التقدمي الاشتراكي( فؤاد حجازي) في كل ما كتب من قصص وروايات، ولعل هذا الصوت المعارض والكاشف عن كثير من سلبيات الواقع والحياة لم يكن غائباً عن مداخلات مفاصل الرواية التي قدم من خلالها نقداً واضحاً وصريحاً لكثير من أمراض المجتمع المعاصر، ولعل من أهم هذه الوقفات الناقدة التي ميزت صوت المبدع دائماً: 1- نقد العادات والتقاليد الشعبية والخرافية التي تؤمن بالشياطين التي تركب الناس: (فوجئت بخال زوجتي ومعه رجل قصير، نصف بدين تتدلي لحيته السوداء من وجهه الأبيض المستدير وعيناه واسعتان أديمهما مشرب بالحمرة، ويمسك مسبحة طويلة في يده، ويجلس متمتماً في جوار الولد علي سريره، استفزني ما أراه وزعقت. - ما هذا يا ست هانم؟ - أحضره الخال، لم أملك نفسي، وأشرت لسيدنا الشيخ، صائحاً: - بره - لم ينطق الشيخ، وغادر ببطء، يتبعه الخال مطأطئاً، صفعت الباب، وقلت: - ماذا يفعل هنا؟ - يطرد الشيطان الذي يركبه. - انفجرت ضاحكاً في سخرية.. - يا عيني علي الست المتعلمة! قالت بصوت منكسر، يعمل لوجه الله ولا يتقاضي أجراً) ص:14 2- نقد الولد الذي يحجر علي أبيه: (الباشمهندس محمد، الذي كان يسكن في العمارة المواجهة لنا والذي كان يعمل في محطة الكهرباء، بعد أن خرج إلي المعاش، وبني عمارة بعد عمله في الخارج عدة سنوات، لم يكد ينتقل إليها حتي قام ابنه المحاسب في بنك استثماري برفع دعوي حجر عليه مع أنه يعطيه ثلاثة آلاف جنيه شهرياً، معاشه تقريباً، مصروفاً). ص:48 3- نقد التحايل الذي يمارسه البائعون الجائلون علي البيوت وخداع أصحابها (بالرغم من الغواية، فلا يوجد خلاط بهذا الرخص، قلت لأخسف به الأرض فينصرف: مئة فقط، وكما توقعت وضع الخلاط في علبته الكرتونية، وانصرف مستنكراً، ولم أكد أجلس حتي رن جرس الباب، والشاب يقول لي: موافق، تأملته هنيهة فاستمر: عليه العوض، أخر خلاط معي، وأود أن أروح لعيالي، لم يجد الزمن علي بذريعة، وقلت في نفسي بناقص مئة، سحبتها من النقود التي علي الترابيزة، أغلقت الباب، وفتحت زوجتي العلبة، وجدناها مليئة بقطع من الطوب) ص:29 . 4- نقد المشاجرات التي غالباً ما تحصل بين القبائل المتناحرة في جنوب الوادي مما يؤدي إلي عدد من الضحايا. 5- نقد البطالة بوصفها من أسباب الانحراف لعدد من الشباب: (لو كف أولاً علي التعاطي فربما هو الذي يدفعه إلي البطالة، أم تري التعاطي والبطالة كل منهما يقود إلي الآخر) ص:69 . 6- نقد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تدفع كثيراً من الشباب الجامعي إلي العمل في مهن لا تليق بالشهادات التي يحملونها، ص:71 . 7- نقد الازدحام علي الأفران، ص:83، ونقد فرش الأرغفة علي الأرض (لاحظت أن المنصرفين يفرشون الأرغفة علي الرصيف حتي تبرد، وغير بعيد عربات الكارو واقفة، ينقل عمال الخبز إليها من وقت لأخر، طاولات من الجريد محملة بالخبز، لتوزعها علي المطاعم وفِشِل الحمير وبولها علي الأرض) ص:85 . لقد كان الوعي الوطني رديفاً في مفاصل الرواية ومحاورها وهو ينتقل من موقف إلي أخر ناقداً وكاشفاً عن كثير من السلبيات التي تعرقل تقدم المجتمع وشبابه، قدمه علي طبق من الوعي السردي، وهو يغوص بقلمه في توصيف الحياة سواء داخل البيت أو خارجه من دون أن يترك صغيرة أو كبيرة إلا ويقتحمها بقلم واعٍ، حتي الدخول في يوميات الحياة لم يتركه ينسي أبسط الأمور وأقلها أهمية، مثل دورات المياه وقاعدة المرحاض والتبول كان مركز اهتمامه ولذلك تكررت هذه المسميات في موقع من مواقع فصول الرواية. كل هذا من طبيعة شغل الروائي المهموم بالحياة والمنحاز بشكل دائم إلي الشعب وطبقاته المسحوقة ولهذا لا يمكن لأحد أن يفصل فؤاد حجازي عن تفاصيل الحياة التي عاشها في الواقع، ونقلها إلي الفضاء الروائي إحالة ناقدة وكاشفة لكثير من جوانب الحياة السوداء.