إن من أجلّ وأهم أسباب النشاط العلمي في أي أمة: ازدهار العمران، وقيام أصول الصناعات، ونشاط التجارة، مما يؤدي إلي توفر مصادر الإنفاق علي عمارة المدارس والجامعات والمعاهد والمكتبات والمساجد، والتفرغ لتكميل النواحي العقلية، بعد استيفاء حاجات الشعب وعامة الناس من مطالب حياتهم، وتأمين شئون معاشهم؛ لأن الحركة العلمية في كل أمة تأتي في مرحلة متأخرةٍ زمنيًّا، تعقب استقرار البلاد، واستتباب الأمن، وتوفر المطالب الحياتية التي تكفل الحياة الكريمة. ولأجل هذا تتأخر الحركة العلمية ويخفت نشاطها في الأمم المتخلفة، والشعوب الفقيرة، لانشغال الناس بتحصيل المعاش، وعدم فراغ الذهن للكمالات النفسية والعقلية والروحية، وقد أشار ابن خلدون إلي شيء من ذلك، لا سيما عند حديثه عن شيوع الأوقاف علي المدارس العلمية مما كان يكفل لطلبة العلم الكفاية المادية، فيعينهم ذلك علي فراغ الذهن، والنهوض للدرس والتحصيل. وقد قال الرحالة محمد بن عبد الله ابن بطوطة رحمه الله تعالي في رحلته المسماة: (تحفة النظار، في غرائب الأمصار): (ثم وصلت إلي مدينة مصر، وهي أم البلاد، ذات الأقاليم العريضة، والبلاد الأريضة، المتناهية في كثرة العمارة، المتناهية بالحسن والنضارة، ومجمع الوارد والصادر، ومحط رحل الضعيف والقادر، وبها ما شئت من عالم وجاهل، وجاد وهازل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكر ومعروف، تموج موج البحر بسكانها، وتكاد تضيق بهم علي سعة مكانها وإمكانها، شبابها يجد علي طول العهد، وكوكب تعديلها لا يبرح عن منزل السعد، قهرت قاهرتها الأمم، وتملكت ملوكها نواصي العرب والعجم). وهو هنا يشير إلي استحكام أصول العمران في القاهرة، وأنها بلد عريق زاخر، يموج بالحياة والصنائع والحرف والمهن والمواهب والعقول، ويمتلك ثراء عظيما في القدرات البشرية، مما يجعل تلك المواهب البشرية حتما تتحرك وتعمل وتنتج وتبدع، وتكتسب مهارة إدارة قدراتها وإمكانياتها، فتولد الحضارة، ويستمر التمدن. وقد تناول ابن خلدون أيضًا في موضع آخر من تآليفه وصف العمران المزدهر في مصر في تلك الفترة، مما يعد تمهيدًا لنشاط الحياة الفكرية والعقلية. قال في سيرته الذاتية المسماة: (التعريف بابن خلدون): (فانتقلت إلي القاهرة أول ذي القعدة، فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك. تلوح القصورُ والأواوينُ في جوِّه، وتزهر الخوانك والمدارس بآفاقه، وتضئ البدور والكواكب من علمائه، قد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة، ومدفع مياه السماء، يسقيهم النهل والعلل سيحه، ويجبي إليهم الثمرات والخيرات ثجه، ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم، ومازلنا نحدث عن هذا البلد، وعن مداه في العمران، واتساع الأحوال. ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا، حاجهم وتاجرهم، بالحديث عنه، سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس، وكبير العلماء بالمغرب، أبا عبد الله المقري، مقدمه من الحج سنة أربعين، فقلت له: كيف هذه القاهرة؟ فقال: »من لم يرها لم يعرف عز الإسلام». وسألت شيخنا أبا العباس ابن إدريس كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال: كأنما انطلق أهله من الحساب، يشير إلي كثرة أممه، وأمنهم العواقب. وحضر صاحبنا قاضي العسكر بفاس، الفقيه الكاتب أبو القاسم البرجي بمجلس السلطان أبي عنان، منصرفة من السفارة عنه إلي ملوك مصر، وتأدية رسالته النبوية إلي الضريح الكريم، سنة خمس وخمسين، وسأله عن القاهرة فقال: أقول في العبارة عنها علي سبيل الاختصار: إن الذي تخيله الإنسان فإنما يراه دون الصورة التي تخيلها، لاتساع الخيال عن كل محسوس، إلا القاهرة، فإنها أوسع من كل ما يتخيل فيها، فأعجب السلطان والحاضرون بذلك). قلت: ومن حصل له اطلاعٌ علي سنن الله تعالي في الاجتماع البشري، ورأي كيف تحدث التحولات في مسارات الأمم، من رقيٍّ ونهوضٍ، إلي تدهورٍ وانهيار، فإنه يلمح الروابطَ الدقيقةَ التي تربط النهضة العلمية في أي أمة، بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية المتفشية في المجتمع، فإن الجميع منظومة واحدة متناسقة، وبقدر ما يطرأ علي الناس من استقرار في حياتهم الاقتصادية يستقر المجتمع، وتنشط فيه حركة التجارة والصناعة، وتستقر البلاد، ويتوجه الناس إلي اكتساب العلوم والمعارف في الفنون المختلفة الدنيوية والأخروية، وينفقون في سبيل ذلك، فتنشط من ثم المدارسُ والمعاهدُ ودُورُ العلم، وتنشط الفنون والآداب، وتدور دورة المجتمع، بحيث ينعكس النهوض العلمي علي الإتقان المتزايد لشئون التجارة، والزراعة، والصناعة، والعمران، وتأخذ الأمةُ بزمام أمورها، وأحوالها، وقراراتها. وأقول: إن اعتزازنا بالقاهرة وبمصر وبكل إنسان علي أرضها، وبكل ذرة رمل أو تراب فيها، لا حدود له، وإن ثقتنا في مقدرة هذا البلد العظيم علي اجتياز أزماته وإعادة توليد الأمل والحضارة والعمران والعلم والحكمة لا حدود لها، ويجب أن نفرغ سريعا من حالة الجدل والشتات وضبابية الرؤية والتشكك في النفس والوطن، ويجب أن نفرغ سريعا من اتخاذ القرار الواضح والصارم بأن طريقنا إلي الحياة الكريمة وإعادة صناعة الحضارة هو بذل العرق والجهد، واستنفار كل طاقاتنا وتوجيهها إلي العمل، مع الأهمية البالغة لعدم حضور حظوظ النفس في هذه المرحلة، وأن يكون قرارنا جميعا في هذا الوقت هو عدم البحث الآن عن مكسب عاجل وثراء سريع، بل العطاء بلا حدود حتي يأتي سريعا الوقت الذي نأخذ فيه بلا حدود، مع أهمية تدخل كل واحد مقتدر منا لكفالة واحد فقير، حتي يتحمل بعضنا بعضا، ونتقاسم معها ما بين أيدينا، ليخرج الجميع من حالة الإحباط والحيرة والبلبلة، ولتزول من نفوس الجميع حالة الخوف والهلع، وترجع النفوس إلي حالة سكينة وطمأنينة تستطيع أن تنطلق منها إلي بذل الجهد والعرق، ولابد لنا جميعا من الفراغ السريع من ذلك كله حتي ننتهي من توفير مطالب المعيشة لننتقل إلي الشروع في الكمالات النفسية والعقلية والمعرفية، لنرجع مرة أخري إلي اكتشاف العقول، وتنمية البحث العلمي، وتطوير المعاهد والجامعات والمدارس، حتي تنال مصر مكانها اللائق بها بين الأمم وسلام علي الصادقين.