ليس غريبا أو شاذا من يرفض الديمقراطية فبعض المفكرين والفلاسفة الكبار رفضوها شكلا وموضوعا ونصبوا لها العداء، لعل أبرزهم الفيلسوف اليوناني أفلاطون الذي اعتبرها نظاما منافقا لأغلبية المواطنين بغض النظر عن الصالح العام، فالمرشح في النظام الديمقراطي يريد الفوز بأكبر قدر من الأصوات وفي سبيل تحقيق ذلك ينافق الناخبين ويعدهم بتلبية كل طلباتهم حتي وإن كانت هذه الطلبات ضد المصلحة العامة للمجتمع، وبذا فالديمقراطية عند أفلاطون تقود البلاد إلي تنفيذ شهوات الناس وأهوائهم، وتؤدي في النهاية إلي فوضي اجتماعية وإلي ضعف قوة الدولة، وفي كتابه الأشهر الجمهورية وضح أفلاطون هذا الرأي وتحدث عن مفاهيم الحرية والعدالة والأخلاق وأثبت أن جميعها لا يتفق مع فكرة الديمقراطية، فليس من العدالة أن تقصي رأي 49% وتمتثل لرأي 51% قد يكونوا من أصحاب المصالح أو من قبيلة المرشح أو اشتري أصواتهم، وكان ارسطو يقول كلما كذب السياسي حصل علي أصوات أعلي، أما الفيلسوف الألماني نيتشه فقد رفض هو الآخر الديمقراطية حيث كان يري أن اعضاء البرلمان لاينظرون إلا للمصلحة الشخصية التي تضمن لهم استمرار السلطة، وهم يسعون إلي كسب تأييد الناس حتي وإن كان هذا ضد مصلحة الوطن التي قد تصطدم في لحظة ما مع مصلحة الفرد، فيضطر الديمقراطي أن يغلب مصلحة الفرد علي مصلحة الوطن من أجل البقاء في سدة الحكم، ويتفق كارل ماركس مع هذا الرأي ويقول »إن المسمي الحقيقي للدول الديمقراطية هو دول ديكتاتورية رأس المال» فالنظام الديمقراطي يرسخ لسيطرة رأس المال علي الحكم لاسيما في الدول الفقيرة.. والديمقراطية في الأصل هي كلمة يونانية مكونة من مقطعين، الاول هو (ديموس) بمعني الشعب والثاني هو (قراتوس) أي الحكم أو السلطة ومعناها الحرفي حكومة الشعب، أما المدلول العام للكلمة فيعني حكم الشعب لنفسه، وقد ابتكر اليونانيون هذا النظام في القرن الخامس قبل الميلاد ليكون بديلا للنظام السياسي الذي كان سائدا قبل ذلك في كثير من المدن اليونانية والمعروف بالأرستقراطية والتي تعني حكم النخبة، وعلينا ان نعترف بأن النظام الديمقراطي قد نجح في بعض الدول الغربية، ولكنه قطعا لم ينجح عند العرب، وذلك لأنه يؤدي إلي انقسامات وتفرقة بين الناس، وفي المقال السابق سردنا ما حدث لمصر خلال الفترة من سنة23وحتي1952وكيف كفر الشعب المصري بالديمقراطية بعد انتشار الفساد وجماعات الاغتيال السياسي وسيطرة رأس المال، وتجلي رفض الشعب المصري للديمقراطية في مظاهرات مارس 54 حين رفع المصريون شعارات كتبوا عليها لا للديمقراطية، لانريد أحزابا ولا انتخابات، وظل الامر هكذا حتي 1975حين قرر السادات عودة المنابر تمهيدا لعودة الحياة الحزبية، ومما أذكره أنني عندما كنت طالبا في معهد الفنون المسرحية ترشحت لانتخابات اتحاد الطلاب ولكنني خسرت بفارق ضئيل بينما فاز زميلي في قسم الديكور لأنه القسم الأكثر عددا، هنا وفي هذه اللحظة فكرت جليا في الأمر، لماذا خسرت؟ ولماذا أيد أبناء قسم الديكور زميلهم؟ انها العصبية التي تحكمنا والتي تبدأ بعصبية الأسرة ثم العائلة ثم الشارع ثم الحي وأحيانا عصبية الدين وعصبية القبيلة وعصبية الحزب، وهذه هي أول مساوئ الديمقراطية، فهي تفرق ولا تجمع ولكي تفوز في أي انتخابات عليك بالانتماء إلي قبيلة كبيرة العدد وإذا قررنا ألا يخرج مقعد البرلمان من عائلتنا فعلينا أن نشجع أبناءنا علي الانجاب المتواصل لكي نضمن الأغلبية دائما ولا مانع من شراء بعض الأصوات،هكذا تدار اللعبة، انها مجرد وعود وأكاذيب أو حقائق ضد المصلحة العامة، ولا أحد يفكر في نسبة ال 49% المهزومة وإن كنت أتعاطف دائما معها لأنها تضم غالبا بعض المثقفين وأصحاب الرأي والفكر، ولكن النظام الديمقراطي يلقي برأيهم في عرض البحر عقب هزيمة مرشحهم في الانتخابات ليحكمهم من حصل علي 51% بغض النظر عن ثقافة هؤلاء وعلمهم ووعيهم، فالأمر يخضع لحسابات أخري عصبية وعرقية، وفي النهاية يصبح مصير ال 49% من الناخبين في يد حاكم رفضوه ولم ينتخبوه ويتمنون فشله وربما يعمل بعضهم علي تحقيق ذلك ، وهكذا فإن الديمقراطية تخلق نظاما غير عادل وتفتح أبواب الصراعات المجتمعية والانقسام بين أبناء الوطن ، ولعلنا قد شهدنا ذلك بوضوح أثناء الجولة الثانية من انتخابات 2012حين انقسمت الأسرة الواحدة بين شفيق ومرسي، وتطاول الأبناء علي الآباء وتخاصم الأخوة فيما بينهم، واشتد الاحتقان بين أبناء الشعب الواحد ولعب رأس المال دوره بشراء قنوات تليفزيونية وبرامج وصحف واصحاب اقلام، وهذا أيضا ما حدث في التجربة الديمقراطية اللبنانية والتي انتهت إلي دستور طائفي ومعارك اعلامية وفصائل وفرق وأحزاب واغتيالات بالجملة، وقد يذهب البعض إلي أن الديمقراطية تحتاج إلي ثقافة مختلفة وأنا أظنها لا تناسب أفكارنا وتراثنا ومعتقداتنا فهي تشبه البذلة الفرزاتشي ذات اللمعة، والتي لايمكن لمواطن مصري ان يسير بها في حارة شعبية،علينا اذن أن نلجأ إلي طريق آخر نحقق به العدالة المرجوة ونتجنب به كل هذه السلبيات، والطريق الآخر الذي أتحدث عنه لا يعني الديكتاتورية بل يعني البحث عن نظام يتناسب مع التركيبة النفسية والتاريخية والاجتماعية لنا كمصريين، لاسيما ان الاسلام ذاته لم يعرف الديمقراطية، والسؤال الان لماذا يطالبنا الغرب بتطبيق النظام الديمقراطي؟ ولماذا يهددون بمنع التعاون وقطع المعونة إذا سرنا في اتجاه آخر غير ديمقراطي؟ لماذا تفرض علينا الديمقراطية، هل لأنهم يريدون لشعوبنا الخير والرخاء ؟ وكيف يدافعون عن الأقليات وهم يعلمون يقينا أن الديمقراطية تعصف دائما بالأقليات في قارعة الانتخابات؟ لعلنا قد اجبنا علي هذه الاسئلة حين تناولنا بالتحليل كتاب ريتشارد نيكسون »نصر بلا حرب» في نفس هذا المكان منذ اسبوعين.