ارتعشت عيناه المُغلَقتان ورموشه المتشابكة وهو غائب عن الوعي يتمتم بِنُتف كلمات غير مفهومة، شيئًا فشيئًا راحت تمتمته تصبح همسًا، ثم راح همسه يتحول إلي صراخ هستيري ينتفض علي إثره جسمه المقيد الأطراف إلي زوايا السرير الأربعة "حماية له من نفسه" وتبرز عيناه من محجريهما. استمر لدقائق في نحيب موجع إلي أن همدتْ طاقته وفقد الوعي مرة أخري. خلعتُ المعطف الأبيض واستبدلتُ نظارة القراءة بالأخري الخاصة بالمشي. بداية اليوم كانت نهارا شتويا حارا، وعندما وصلتُ لمعاينة مكان الحادث كان الليل موشكًا علي الهبوط والجو آخذًا في التَلطُف. أخذتُ بنصيحة زميلتي ولم أدخلْ الشارع.. "لا من جهة الميدان، ولا من طريق المدرسة القديمة، بل من زقاق رفيع تفتح نهايته علي الشارع، منتصفه تقريبا". أخبرتني كذلك عن "أم فاروق" بائعة الجرائد التي تسمع دبة النملة بالشارع وتعرف كل ما يجري. في منتصف الزقاق رأيتُ عجوزا تقف أمام بوابة بيت من ثلاثة أدوار، أشارت لشباك الدور الأرضي مبتسمة: _ اتفضلي عندنا. ما ينفعش حد يعدي كده. لم يبقَ برأسها شعرة واحدة سوداء، لكن ضحكتها حلوة، وعصير البرتقال كذلك. حكت عن هجرة أولادها وعن وحدتها، وأصرت أن أُكمل الكوب وعندما صرتُ عند البوابة استوقفتني: _ أنا عارفة سبب مجيئك. وأشارت إلي الشارع، إلي أسلاك الكهرباء بين عموديّ إضاءة: _ ملايكة بجناحات سودة كبيرة. يقفوا علي السلك صف واحد.. ويدندنوا. بأسمعهم بالعافية. المرة الأخرانية قالوا هاتي لنا ربع لب عباد الشمس من المقلة. علي بال ما رجعت مالقيتهومش. كل شيء كان ماشي تمام لغاية موضوع لب عباد الشمس!! ودعتها وضحكتُ في سري. قبل نهاية الزقاق رأيتُ تيار مياه نازلا من أعلي بناية قديمة من طابق واحد. اكتشفتُ متأخرًا أنه بول، فَهتفتُ أُوبخ الصبي الذي "عملها" من فوق، تراجع عندما رآني وفي ثانية كان بجواري في الشارع. توقعتُ أنه أتي ليعتذر لكنه لم يفعل. كانت ثيابه مهلهلة، وقدماه حافيتين متسختين، وحاله تؤكد انتماءه لمن يطلقون عليهم "أطفال الشوارع" خاصة عندما لمحت جرحًا قطعيًا أسفل عينه... _مش جرح. دي شامة. عشان كده بيقولولي سيد أبوشامة. سألته عن أم فاروق، في لحظة كان يتقدمني حتي دخلنا الشارع. توقف أمام "فرشة" أي غطاء، تظهر أطراف الكتب من تحتها. وفي لحظة كاد يختفي لولا أنني أشرت له لكي لا يبتعد. اقترب وانتظر ليري كم سأعطيه... ثم قال: _ أنا عارف كل حاجة بس مش هأقول أي حاجة. لم أعلق، وبينما نحتسي الشاي الذي أحضره من مقهي بالشارع المجاور قال: _ حسن قال مفيش عفاريت. الشارع ده مافيهوش عفاريت خالص. وكان انتباهي مشدودًا إليه عندما لمحتُ شيخًا علي الناصية المقابلة يحمل قارورة ماء وممسحة. التفتُ للولد "سيد أبوشامة" يقول: _ حسن قال انه شاف بعينيه اللي هياكلهم الدود.. جدعان بتطير فوق العواميد. _ تطير؟ لم أستطع منع نفسي من الضحك. بدا مغتاظًا، صمتَ لحظة ثم ردَّدَ بثقة: _أيوة بتطير. مش واحد. ده صف طويل. أغلبهم بترنجات وشباشب. بس إيه.. جامدين حسن مايكذبش. _ وفينه حسن ده؟ أشاح بوجهه بعيدا وبعد لحظات لم أجده بجواري، وفيما تلفَّتُ بحثًا عن أم فاروق لفتني انهماك الشيخ في سكب الماء علي الأسفلت ودعكه بالممسحة. أتي صياح من أعلي، فارتقيت ببصري فرأيت امرأة تناديه أظهرت الكلمات أنها ابنته، ورد هو: _ مش طالع. الحتة مش راضية تنضف أعملك إيه؟ وعندما لمحني وجه إلي كلامه شارحًا: _ الأرض بتتقيا كل اللي شربته غصب. دم ولاّ عرق ولا دموع... كله كان غصب. تعالي نداء ابنته. نظر نحوي شاكيا: _ أعمل لها إيه دي! مش فاهمة حاجة. همستُ: _ معلش. ويبدو أنني حركت قدمي لأنه بادرني منفعلاً: _ حاسبي. دي دموع اللي انتي بتدوسي عليها. _ دموع!؟ أحسست بشيء يهتز داخلي. استجمعتُ نفسي قليلاً ، وركزتُ علي ضرورة إنجاز مهمتي فسألته: _ ماتعرفش أم فاروق فين؟ حدق بي، فأردفتُ: _ عايزاها في حاجة ضروري. راح يضحك ثم انهمك في مسح الأسفلت مجددًا، وعندما اقتربتْ الممسحة من قدمي فضلتُ الابتعاد بالاتجاه الآخر، ومددتُ الخطي لاستكشاف امتداد الشارع فاستوقفني صوته صائحًا: _ لأ بلاش تبعدي. كفاية اللي جري. _إيه!؟؟ فتح فمه ولم يقل شيئًا، فقط صوت كبح للكلمات مثل غلق ضلفة دولاب. "هي ليلة ما يعلم بها إلا ربنا" قلت لنفسي وأنا أفكر في الهرب. أحسستُ بنقرٍ علي ظهري فالتفتُ فإذا بها شابة جميلة ملتحفة عباءة سوداء، قالتْ: _ عايزة أسألك سؤال يا ست الدَكتورة. اندهشت من معرفتها بأني طبيبة. وقبل أن أقول شيئا أردفتْ: _ هو الغاز له طعم؟ ولاّ السحابة السودا هي اللي عملتْ كده؟ ولا يكونش النكَد؟ وبأسي: _ مابقيتش عارفة آكل ولا أشرب. بقيت أنوي الصيام وأقول أهو يبقالي عند ربنا. صُمت كتير وصَليت ياما... لغاية ما تعبت، ومفيش حاجة بتتعدِّل. أردت أواسيها ولو بكذبة فهمستُ: _ معلش. أكيد هنلاقي حل. ابتسمتْ فسألتها: _ ما شفتيش أم فاروق كنت عايزة أسألها علي حاجة. ضحكتْ وهي ترفع ذراعيها لأعلي متضرعة، ثم تلتفتْ نحوي: _عايزة تسألي أم فاروق! تشخر. السؤال لغير الله مذلَّة. تقهقه وتنحني فتسقط العباءة "يبدو شبكت في مسمار أو خلافه" ويبين تحتها قميص داخلي قصير كاشف لصدرها ووركيها. تلتقط العباءة وتصيح مشوحة بذراعيها وساقيها: لأ ابعدوا عني لأ. ابعدوا يا كلاب سعرانة... ويظهر الولد سيد أبوشامة يقترب ويحوم حولي فأحكم قبضتي علي حقيبتي بينما أسمعه: _ أنا عارف كل حاجة بس مش هأقول أي حاجة. وفي اللحظة التي كنت أتوقع أن يمد يده نحو الحقيبة وكنت أستعد لصفعه، انثني متألمًا من بطنه وأخذ يتقيأ، ويلحقه الشيخ بسكب ماء القارورة الذي يتحرك محدثًا انزياحًا للوسخ ثم تأتي الممسحة لتدفعه حتي بالوعة صغيرة بجانب الرصيف. كانت امرأة العباءة مازالت تبكي بجوار الولد عندما ظهرت عجوز البدروم وهتفت لمرآهما: يا كبد أمكم!! وأخذتهما "المرأة والصبي" لداخل الزقاق المظلم. ظهر رجل متوسط العمر آتيا يعدو من طريق المدرسة القديمة وما أن اقترب ما يكفي لوصول صوته إلينا حتي هتف: _قوم فز ياض منك له. كله يقف انتباه للباشا رئيس النُظار. ينفجر الرجل الذي يمسح في الضحك ويصيح: إخرس يا حرامي الحلَّة. باشا مين؟ ونظَّار مين؟ ده كان زمان. يرد آخر "شاب" آت من الزقاق: _ أنا هأستقيل من تدريس التاريخ. مش عارف الباشا ده مين بالضبط؟ كل ليلة بيجيني في المنام. مرة عايش في دور الوطنية وبيناطح في الانجليز، ومرة شايل كلبشات كبيييرة وعَمَّال يكلبش كل اللي يفتح بُقه. يهتف أبو ممسحة: _الباشا طظ. محشي رز. تنفجر الضحكات. لا أعرف من أين أتي كل هؤلاء الناس؟ وكيف اختلط النور بالظلام بألوان الطيف؟ ولا كيف انبثق كل هذا القلش والقهقهات والصيحات؟ ويبدو أن مطرًا تساقط واندمج بالدموع وبتيارات شبيهة بالبول فوق الرءوس، وأشارت امرأة أتت من خلفي إلي وريقات شفافة تتمايل مع قطرات المطر وقالت إنها أغشية بكارة جنيات منذورات لأحلامٍ تعِسة.. لا أعرف أيضًا كيف أحسستُ بها بجواري فسألتها: إنتي أم فاروق؟ وبعد أسئلة أخري، ومحاولات منها للإجابة مستعينة بإشارات الوجه وحركات اليدين والأنامل اكتشفتُ أن أم فاروق: خرساء. عدا أنها أشارتْ للحائط، وقامتْ بالعبور معي امرأة أخري حتي صرت عند المكان الذي أصيب الرجل الراقد بالمستشفي عنده بنوبة الذعر؛ كان، حسب روايتها، مكلفًا بإعادة طلاء الجدار، راح يسكب الألوان بغزارة علي ملامح الوجوه المرسومة قبل شهور وبعد أن محاهم تمامًا أحس فجأة بهم "بلحمهم ودمائهم" يبرزون من داخل الجدار ويتحركون باتجاهه، فهوتْ من يده صفيحة البوية، رمي بالفرشاة وجري مذعورا. ليلة ما يعلم بها إلا ربنا. مع خطوات خروجي فكرت ان كان هذا هو الشارع المقصود؟ ان كانت أم فاروق هي أم فاروق فعلا؟ إن كنت أنا.. بالفعل أنا؟؟ أم...