كانت عند ميلادها فتاة طبيعية، إلا أنها أصيبت في الثانية من عمرها بنوع من الحمي، جعلها تفقد البصر، وتفقد السمع، وتفقد القدرة علي الكلام، وما بين لحظة والأخري تحولت الفتاة إلي إنسان محطم، غارق في الظلام، معزول عن العالم، في أوائل طفولته، وفجأة وجد الأبوان نفسيهما أمام معضلة مريرة تصيب أي إنسان بإحباط هائل، ويأس مرير، وتمر الأيام والليالي والأسابيع والشهور طويلة ثقيلة، تصيب الروح بالمرض، وكان من الممكن لوالديها تركها في البيت، واعتبارها بركة كما نعتبر نحن كل طفل معوق، وكان بإمكان الأبوين أيضا التخلص منها عند أقرب مستشفي أو دار لرعاية الأطفال، لكن ظل الأبوان علي مدي سنوات يتعاملون مع هذه الأزمة المحزنة بقدر رفيع من اللياقة والنجاح والحكمة، ترددوا علي الأطباء، وتحملوا رعاية طفلة لا تري ولا تسمع ولا تتكلم، وتكفلوا بتعليمها الأكل والشرب، وتبديل ملابسها، وإدراك معني الليل والنهار، والأب والأم، وتجشم الأبوان مشقة هائلة في توصيل الدنيا بكل اتساعها إلي هذا الوعي الضيق عند طفلة معزولة عن كل أسباب المعرفة، حتي توصل الأبوان بعد سنوات إلي أستاذة خبيرة بالتعامل مع مثل هذا النوع من الإعاقة، فعكفت الأستاذة آن سوليفان علي تعليم هذه الطفلة وهي في عامها السادس كل شيء، عن طريق لمسات مدروسة علي أصابع الطفلة تفهم من خلالها المعاني، وكان من المعضلات المريرة أن الطفلة عجزت علي مدي أيام عن معرفة معني (كوب ماء)، وعجزت تماما عن معرفة معني كلمة كوب، ومعني كلمة ماء، وظلت الأستاذة يوما كاملا وهي تعيد الشرح عن طريق لمسات الأصابع والطفلة قد أغلق عقلها تماما، حتي ضاق صدر الطفلة، وبلغ منها اليأس مبلغا، وألقت لعبتها علي الأرض في غضب يائس فتكسرت اللعبة مائة كسرة، فلم تغضب الأستاذة، ولم تنفعل، بل أخذتها من يدها إلي الحديقة في الهواء الطلق، وفجأة لمحت صنبور ماء ففتحت الماء وقربت يد الطفلة تحت الماء وهي تنقر بلمساتها علي أصابع الطفلة معني كلمة ماء، وفجأة جاءت اللحظة القدسية، التي تعادل وزن الكون كله، وفهمت الطفلة كل ما أرهقها وعذبها فهمه طوال اليوم، وكأن كل أسرار الكون قد أضاءت في عقلها مرة واحدة، وأنارت أمام عقلها وشعورها، إنها لحظة تنفجر فيها الدوامة وينجح الإنسان في عبور حاجزها، واختراق أسوارها، والقفز من حالة اليأس المطبقة إلي حالة رحيبة وواسعة، كأنه يكتشفها ويراها لأول مرة، ففهمت الطفلة، وتفجرت في نفسها سعادة غامرة بهذا الشعور، جعل مسار حياتها يتحول تماما من أن تمضي بقية عمرها معذبة كئيبة ساخطة، فإذا بها فجأة قد صارت واثقة، ثابتة، وابتداء من تلك اللحظة اقتدرت علي تسطير نجاحها في حياتها كلها، ورجعت إلي البيت تتلمس قطع لعبتها المكسرة وتحاول تجميعها ولصقها، وسجلت بعد ذلك في مذكراتها أن هذه كانت أول ليلة تنام فيها وهي تشتاق لليوم التالي، إنها هيلين كيلر، العبقرية التي أكملت بعد ذلك مسارها التعليمي حتي حصلت علي الدكتوراه في الفلسفة، وتركت تسعة عشر مؤلفا، ترجمت إلي خمسين لغة، وعاشت ثمانين سنة، واعتبرتها الجامعات والمراكز البحثية من ضمن أهم مائة شخصية أثرت في العالم، وسافرت إلي تسع وثلاثين دولة، وكرمها رؤساء الدول، ونزلت مصر سنة 1952م وقابلت الدكتور طه حسين، وأسست عددا من المؤسسات لرعاية المعوقين وذوي الاحتياجات (بل القدرات) الخاصة، وكانت تقول: (عندما يُغلق باب للسعادة، يُفتح آخر، ولكن في كثير من الأحيان ننظر طويلا إلي الأبواب المغلقة بحيث لا نري الأبواب التي فُتحت لنا)، وكانت تقول: (أنا عمياء، لكنني أري!!!، وأنا صماء، ولكنني أسمع!!!)، وهي تقصد طبعا أنها استطاعت اختراق كل أسباب العجز واليأس المرير، ونجحت في إدارة أزمتها وحياتها كما لو كانت تسمع وتري سواء بسواء، إن هيلين كيلر ليست شخصا عابرا في تاريخ البشرية، بل هي قصة البشرية كلها وقد تلخصت في إنسان، يستطيع أن يخترق العجز واليأس والكآبة والمرارة والإحباط، وأن يصنع من كل هذا الركام حالة عجيبة من الرقي الإنساني، والاقتدار علي التحدي، وانتشال النفس من الغرق في الظلمات، وقد ظلت بقية عمرها تفكر وتبدع، وتكتب مؤلفاتها، وتطوف العالم، والجسر الذي يربطها بالعالم مترجمة تجيد قراءة لمسات الأصابع، وتنقل لنا ما يجول داخل هذا الصندوق الإنساني المغلق المسمي هيلين كيلر من فكر وإبداع وتألق وحركة ونجاح، وهمة هادرة وجارفة، يموج بها ذلك الجسد العاجز الواهن، ولقد سجلت في ذهني أثناء قراءتي عددا من الشخصيات الكبيرة التي كنت أتمني أن أتشرف بالجلوس إليها، واقتباس قبس من الحكمة مما أجراه الله تعالي علي هذا الإنسان من عباده، وكم تمنيت لو أنني شخصيا قد رزقني الله تعالي هذه الهمة، وهذه المقدرة، وهذه العناصر الغريبة من النجاح، التي تصنع من أعماق المستحيل نجاحا، وكم تمنيت لو أن كل إنسان قد تعرف إلي هذا النموذج، واستطاع أن يجاريه، وأن يصنع مثله، وأن يكرر نموذجه، وأن يعيش نفسيته، وكم تمنيت لو أننا جميعا نتمكن من تدريس هذه النماذج الخارقة للأجيال القادمة، مع ما يماثلها من نماذج العباقرة وذوي الإرادة من تاريخنا وتراثنا العربي المسلم، ومن التراث الإنساني الواسع الممتد، علي اختلاف الثقافات والحضارات والشعوب الحافلة بأمثال هذه العجائب، وأخيرا تحياتي وتقديري إلي شخصك الكريم أيتها العبقرية الكبيرة هيلين كيلر، وأرجو أن تتقبلي تقدير إنسان مصري مسلم وجد في شخصك إبداعا كبيرا، يستحق كل الإشادة والإجلال وسلام علي الصادقين.